لقد اطلعت على المقال الرصين الذي خطه يراع الأخ محمد الحسن السيد الذي نشر في صحيفة الأهرام اليوم في عددها الصادر بتاريخ 17 رمضان 1433 ه الموافق 5 أغسطس 2012م والذي تناول فيه الحالة التي آلت إليها مدرسة مدني الثانوية بنين. وقد طالب في مقاله بتدارك أمر هذه المؤسسة والصرح الشامخ الذي لعب دوراً بارزاً ومشهوداً في دروب النهضة والازدهار على مستوى الوطن عامة والجزيرة خاصة، حيث إنها قد خرّجت أجيالاً وقادة في شتى مجالات المعرفة والحياة.. فمنهم القادة والساسة والقانونيون والمهندسون والمربون والأدباء والشعراء والمعلمون وخلافهم. وقد أيقظ هذا المقال في نفسي المشاعر، وهيّج فيّ الذكريات الباقية حيث إنني أحد خريجي هذه المؤسسة والصرح المتين الشامخ، إذ أنني التحقت بها في عام 1962م وأهلتني للالتحاق بجامعة الخرطوم فريدة عصرها، ودرّة السودان المرموقة على مدى العصور والأزمان. فالتحقت بكلية الاقتصاد والدراسات الاجتماعية للحصول على شهادة ال intermediate ثم الالتحاق بكلية القانون القسم المدني Faculty of Low (civil) كما طبق ذلك لأول مرة كشرط من شروط الالتحاق بكلية القانون، واستمرت هذه التجربة لمدة ثلاث سنوات وكانت تجربة فريدة وعظيمة وذات فائدة كبرى. لقد تعاقب على إدارة هذه المؤسسة مدني الثانوية بنين مديرون ذوو خبرة قلّ أن يجود الزمان بمثلهم أمثال المدير عبد الرحمن عبد الله وفتحي أمبابي والعالم الفلكي والمربي محمّد أحمد كعوِّرة، وهؤلاء هم المديرون الذين عاصرناهم في مدرسة مدني الثانوية وتركوا فينا بصمات لا تنكر، استفدنا فيها في حياتنا الطلابية ثم من بعد في حياتنا العملية بعد تخرجنا من الجامعة. ولا أستطيع بيان مناقبهم وحصر آثارهم في تربيتنا وإرشادنا في هذه المساحة المحدودة. والحديث عن مدني الثانوية لا ينحصر في هؤلاء وحدهم فمن المعلمين الذين تسعفني بهم الذاكرة محمد علي السيدابي، والأستاذ الشيخ أحمد الشيخ، والأستاذ دفع الله، وأستاذنا النويري الذي أمتعنا في دراسة اللغة العربية والأدب، وأستاذ التاريخ أحمد خالد الذي عمل بعد ذلك مديراً لمدرسة حنتوب، وأستاذ التاريخ البارز صديق محمد الحاج الذي حبب إلينا مادة التاريخ، والأستاذ صلاح عووضة أستاذ اللغة الإنجليزية، والأساتذة الأجانب في اللغة الإنجليزية »تنتون وأنقل بي«، والأساتذة الفلسطينيون في مادتي الرياضيات والفيزياء أمثال الأستاذ أسعد وبولص الصباغ صاحب المرجع الشهير في علوم الفيزياء، والأساتذة المصريون في علوم الرياضيات كالأستاذ رياض وبركات وغيرهم من الأساتذة الأجلاء الذين لا تسعفني الذاكرة بحصرهم. ولا زلت أذكر الأستاذ أحمد الشيخ أستاذ مادة الرياضيات الذي يقوم بتزويد الطلاب بالمسائل المتوقعة في امتحان الشهادة السودانية قبل يوم من الامتحان ويستفيد الطلاب من هذه المراجعة الوافية، وكثيراً ما صدقت تنبوءاته في هذا الشأن. ولا أنسى التدريب العسكري »الكديت« والصول عبد العاطي والصول حسين اللذين اشتركا كجنود في الحرب العالمية الثانية وكانا صارمين وحازمين في مجال التدريب العسكري الذي يبدأ بعد الظهيرة وينتهي بمغيب الشمس وقد كان ذلك تدريباً شاقاً استفدنا منه كثيراً. ولا أنسى التدريب البدني والرياضة التي يشرف عليها مدرسان من جمهورية مصر العربية وهما يحيى وجمال وينطلقان بنا في جري وسباق عبارة عن »جكة« من مدني الثانوية وحتى بركات في الصباح الباكر. ولا يفوتني أن أتطرق للجمعيات الأدبية وجمعية التاريخ التي كان يشرف عليها أستاذنا صديق محمد الحاج، وجمعية اللغة. وكثيراً ما كان يتعاون مع المدرسة المجلس الثقافي البريطاني The British council الذي يقوم بتسليفنا الكتب والمراجع التي أسهمت في إتقاننا للغة الإنجليزية. وكانت الجمعية الدينية التي يشرف عليها أستاذا التربية الإسلامية مولانا محمد علي السيدابي والشيخ محمد الشيخ من أنشط الجمعيات بالمدرسة، وكثيراً ما كانت تحتفل بالمناسبات الدينية المهمة كالمولد النبوي الشريف وغزوة بدر الكبرى وغيرها من المناسبات التي تشكل الملاحم التاريخية الإسلامية. ولا أنسى أبداً الاجتماع الأسبوعي The week Assembly الذي ينعقد في صباح السبت من كل أسبوع، الذي يستعرض فيه مدير المدرسة الشؤون الطلابية، ووضع الحلول لمشكلات الطلاب، وكان منبراً عاماً يحتد فيه النقاش، وتوضع فيه الحلول المناسبة للمجتمع الطلابي، ويتعلم فيه الطالب الشجاعة الأدبية وابتكار الحلول. وكانت مدرسة مدني الثانوية تتمتع بمعامل قلّ أن توجد في هذا الزمان، وكان أستاذ الكيمياء المستر هاندي ذلك الخواجة الودود ذو الملمح والطرائف يحلق بنا داخل تلك المعامل لإجراء التجارب المختلفة وقد استفدنا منه كثيراً، وحبّب إلينا هذه المادة العامة. ولا يفوتني أن أذكر أستاذ الجغرافيا العالم عبد الرءوف محمد صالح الذي كان حاذقاً لهذه المادة ولا يشق له غبار في مجاله وتخصصه هذا. وهناك أساتذة أجلاء أفاضل في هذه المدرسة لا تسعفني الذاكرة لاستحضار أسمائهم، فلهم مني جميعاً التجلّة والاحترام والتبجيل، فقد غرسوا فينا الجدية في العمل والهمة في تحصيل العلم واستفدنا من توجيهاتهم وإرشادهم. وفي مجال التنافس بين الداخليات المختلفة فقد كانت المباريات في كرة القدم وكرة السلة والكرة الطائرة تشكل جزءاً مهماً في هذا المضمار، وقد كانت الميادين الفسيحة التي كانت تزيّن فضاء مدرسة مدني الثانوية تفيض بهذا النشاط الرياضي، وكانت المنافسات على أشدها بين طلاب الداخليات والفرق سادت فيها الروح الرياضية والأخلاق العالية الحميدة. وفي مجال النشاط الفكري والسياسي فقد كانت المدرسة تعجُّ وتفيض بمثل هذا النشاط، وكان الاستقطاب قائماً ومستعراً على أشده بين التيار الإسلامي واليساري، وكان الاتجاه الإسلامي هو الغالب، وكان الإخوان المسلمون في حركة دائبة ونشاط لافت وملحوظ. وكانت مؤلفات سيد قطب ومحمد قطب والعقاد »جاهلية القرن العشرين، ومعالم في الطريق، والعدالة الاجتماعية، والإسلام وأباطيل خصومه، ورسائل الإمام حسن البنا« هي الأبرز التي تشكل الزاد الفكري للاتجاه الإسلامي، وتغذي أعضاء الاتجاه الإسلامي بالمعرفة والثقافة الإسلامية. وكان الشيوعيون في الجانب الآخر ينشطون في استقطاب الطلاب بأفكارهم ومعتقداتهم التي كانت تجد نفوراً من التيار الطلابي الغالب. وخلاصة الأمر عندي أن مدرسة مدني الثانوية بنين كانت تشكل لوحة زاهية، وتمثل تاريخاً ناصعاً وباهراً وبديعاً لا يصحُّ إغفاله وتجاهله، ويقع الواجب على كل من تخرّج في هذه المؤسسة العريقة أن يعمل على رفعة شأنها واستنهاضها من كبوتها التي أشار لها كاتب المقال محمد الحسن السيد. وحري بنا جميعاً أن نتنادى للاحتفال بيوبيلها الذهبي، وأنني أطلق النداء من خلال هذا المقال لكل الحادبين عليها راجياً أن يستجيب له كل من اطلع عليه.