خرجت الجماهير الغفيرة يوم الجمعة إلى ميدان التحرير فى مصر تطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية. لقد كان التجمع كبيراً ومهيباً رغم مقاطعة الإخوان المسلمون وحزب النور السلفي له. كنت قد كتبت خريطة طريق لنجاح الثورات العربية وتحويلها إلى ربيع إسلامي يعيد الأمة إلى الشرع المنزّل حتى لا تضيع دماء أبناء الأمة التى سالت فى ميادين التحرير فى مصر وتونس واليمن وسوريا والبقية تأتى!!. إن الهدم أيسر شئ، ولكن العسير هو البناء. لقد كان الليبراليون فى مصر يطالبون بكتابة الدستور قبل الانتخابات خوفاً من إنفراد الإسلاميين بكتابته إذا فازوا فى الإنتخابات. وكان الإسلاميون وهم يقرأون المشهد المصري يقولون بل الانتخابات أولاً لعلمهم بأن فوزهم أمر محقق، والذى حدث فى مصر أكبر مهزلة للديمقراطية يشهدها العالم، إذ منعت بقوة العسكر القوى التى انتخبها الشعب من وضع الدستور، بل وسارع الليبراليون والفلول إلى حلها ووضعها فى إجازة إجبارية بينما الدستور يكتب، وحققوا ما أرادوا بقوة الإعلام وخبث المؤامرة، فما أراده العلمانيون تحقق وهو ألا تكون لنتيجة الانتخابات أي تأثير على كتابة الدستور العلماني الذى يريدونه لمصر وفشلت القوى الإسلامية التى حصلت على ما يزيد عن «60%» من أصوات الناخبين من تمرير مجرد عبارة هى من بديهات الدستور الإسلامي وهى «السيادة لله» وسوَّد العلمانيون الصحف المصرية وهم يقولون لقد نجحنا فى تمرير عبارة «السيادة للشعب» وبين العبارتين فرق أيدلوجي كبير. وفى كل ديمقراطية فى العالم هنالك ثلاث سلطات: سلطة يسمونها السلطة التشريعية ينتخبها الشعب وهى التى تقوم بكتابة الدستور وإقراره، وسلطة تنفيذية، وسلطة قضائية. وفى مصر صورة من صور الديمقراطية الغربية التى تثبت أن الديمقراطية أكبر أكذوبة، ففى مصر سلطة تشريعية تم تعطيلها وتم تكوين ما يسمى بالجمعية التأسيسية لكتابة الدستور وإقراره، وهى غير منتخبة ولا تمثل الشعب. فصارت هنالك أربع سلطات: تشريعية وقضائية وتنفيذية ورابعة تسمى الجمعية التأسيسية، وهذه الجمعية التأسيسية من عجب أنها قيدت أي نص ذي صبغة دينية أن يتم تفسيره بموجب رعاية الأزهر الشريف، فمنعت الإخوان المسلمون والسلفيين من تفسير أي نص ذي طبيعة دينية تفسيراً إخوانياً أو سلفياً. والأزهر الشريف أصلاً إذا كان فيه خير _ إلا من رحم الله _ هل كان سيقبل بمصر علمانية «60» عاماً !! وفى تقديري، الخطأ خطأ شرعي فى المقام الأول عندما وثق الإسلاميون بقواعد اللعبة الديمقراطية، وانخرطوا فيها وجهلوا أو تغافلوا عن حقيقة مهمة جداً وهى أن الرحم الديمقراطي الخبيث لا يمكن أن يلد إسلاماً طاهراً، وقد ذكرت فى خريطة طريق الثورات العربية أن الثورة كانت يمكن أن ترفع شعارين وتتخذ لكل شعار مرحلة، ففى المرحلة الأولى «الشعب يريد إسقاط النظام» ولا تنفض الجماهير من الميادين ولا تعود إلى بيوتها إلا بعد إنجاز المرحلة الثانية وشعارها «يريد تطبيق الشريعة»، وبذات القوة والعزيمة والإرادة تخوض الأمة المرحلتين، لكن الحماس تم تنفيسه بفرحة السقوط والهدم دون أن تكمل الأمة البناء وتحقيق هدفها الحقيقي، وهو تطبيق الشريعة، وبالأمس كان العلمانيون «يتتريقون» على دعاة (جمعة تطبيق الشريعة) يقولون هذا انحراف فى أهداف الثورة لأن هتاف الثوار كان «عيش حرية عدالة اجتماعية»، فردت عليهم جموع المتظاهرين يوم الجمعة الماضية فى ميدان التحرير بالقاهرة «عيش حرية شريعة إسلامية». ولقد كان الهتاف الإسلامى السوداني أوضح وأبين وأصرح «شريعة شريعة وإلا نموت الاسلام قبل القوت» لكن لا الهتاف هذا ولا ذاك يمكن أن يجعل للشريعة قدمين تمشي بهما على الأرض إلا إذا كانت الأمة واعية بأمرين مهمين وعياً عميقاً وودقيقاً: الأول: ماذا يعني تطبيق الشريعة، لأن الأمة إذا لم تعقل ذلك وتفهمه على نحو عميق سيتم الالتفاف عليها ببعض نصوص فى الدستور على نحو «الإسلام مصدر التشريع الرئيس» أو «الإسلام دين الدولة» علماً أن هذه النصوص أو ما يقاربها كانت مكتوبة فى دساتير تونس زين العابدين بن على، ومصر حسني مبارك ويمن على عبد الله صالح، وغيرها من الدولة التى تحكمها حكومات الشرع المبدل، والذين خرجوا بالأمس إلى ميدان التحرير بالقاهرة يمكن أن يقدموا نموذجاً إذا حددوا على نحو تفصيلي متى يمكن اعتبار أن مطالبهم قد تحققت؟! وما هى الوصفة الدستورية والقانونية المنضبطة التى يمكن أن يعتبروا بها أن هتافهم «الشعب يريد تطبيق الشريعة» قد وجد طريقه إلى أرض الواقع فى أرض مصر الكنانة؟! . وأجد نفسي متفائلاً، ذلك لأننا لم نعد بحاجة إلى تجييش الجماهير لتطالب بالشريعة، فهذا أمر بات مفروغاً منه لكننا بحاجة إلى أمر أعظم مشقة وأعسر وهو تفهيم هذه الجماهير وتوعيتها بماهية تطبيق الشريعة، هذا الأمر الذى يجعله المثقفاتية من الإسلاميين الذين يظنون تعديلاً هنا أو هناك فى الدساتير الجاهلية، ووضع مساحيق فى وجهها الكالح يمكن أن يجعلها إسلامية. الثانى: أن تكون هذه الجماهير التى نزلت فى ميدان التحرير مستعدة لجميع وسائل التصعيد السلمية لتحقيق غاياتها وانجاز هدفها، وأن تتخلى الأمة عن الحالة«الأندروسية» التى ظلت ملازمة لها فى جميع أزماتها، فما أسرعها خموداً بعد فوران، وما أسرعها بروداً بعد ثورة، ولو اتبعت الأمة خريطة الطريق هذه فى انجاز ثورتها، لما احتاجت بعد مرور ما يزيد على العام أن تنزل إلى الشوارع مرة أخرى. ورسالتي إلى حزب الحرية والعدالة وحزب النور السلفي أن يكونا من العبقرية بمكان فى الاستفادة من هذا الضغط الشعبي فى قلب الطاولة على الليبراليين الذين أنجزوا كثيراً مما أرادوا فى وثيقة الدستور التى انتهت إليها الجمعية التأسيسية. فهذه الشعوب التى تطالب بتطبيق الشريعة من عبقريتكم السياسية أن تعتبروها رصيداً لكم وليست خصماً عليكم، وإذا كان الليبراليون يستثمرون ضغوط الخارج في تمرير أجندتهم، فلتستثمروا ضغوط الداخل فى تحقيق شعاركم «الإسلام هو الحل»، وفى إنجاز ما أمضيتم سنين من أعماركم فى السجون والمطاردات لتحقيقه، أما إذا كانت ضغوط الخارج أقوى من ضغوط الداخل، فهذا يصحح نظرية تنظيم القاعدة فى أن الطريق إلى الشريعة الإسلامية وتحكيمها فى منطقتنا يمر عبر واشنطن، لا باستئذانها ولكن بالنكاية بها والتنكيل بها حتى ترفع يدها عن منطقتنا، فلا تضغط على مرسي ولا الغنوشي ولا البشير، وعلى دعاة التغيير السلمي أن يدعموا تحرك الشارع المصري فى ميدان التحرير «الشعب يريد تطبيق الشريعة» فإنه إن استطاع بهذا الهتاف وهذه الحناجر، أن يحقق مقصوده، فقد أراحنا من الملتوف والخناجر! والأمة تريد إصلاحاً لا فساداً وبناءً لا هدماً وإحياءً لا إهلاكاً.