من دواخل نفسه الصادقة نحو تجويد عمله المهني كمهندس للبناء بخاصة زخارف المعمار وهندسته ممزوجاً ذلك بإمعان النظر في أشكال تلك الزخارف.. كانت جل حياته والتي توزعت مابين اللحون الخالدة واختيار الكلمات التي عبرت سواحل النضارة الغنائية لتظل معلماً من معالم الخلود الفني. وُلد الفنان المهندس التاج مصطفى في بدايات سنوات العقد الثاني من القرن العشرين بقرية الشيخ الطيب شمالي أم درمان وهي المنطقة التي تلقى فيها تعليمه الديني بخلاويها مما كان له أثر في جعله ملماً باللغة العربية الفصحى التي ظهرت مخارجها السليمة في ما بعد عبر أغنياته الفصيحة. في بداية الثلاثينيات كانت هجرة أسرته إلى حي العرب بأم درمان، وفي هذه الأجواء الممزوجة بالصوفية والغناء الذي اشتُهر به حي العرب كانت حياته في تلك السنوات التي توزعت ما بين الدراسة ومتابعة الحياة الفنية في حي ضمّ أساطين المشهد الغنائي في تلك الفترة، وهم سيد عبد العزيز، وعبيد عبد الرحمن، والأسطورة التي لا تتكرر عبد الرحمن الريح، وفى هذا الحي كانت (غشوات) المهتمين بالغناء من أساطينه غناءً ونظماً شعرياً، وهم الشاعر صالح عبد السيد (أبو صلاح) الذي كان يسكن حينها بالمسالمة (أي فركه كعب) ويكون مع أصدقائه الشعراء من ساكني الحي، إضافة إلى إبراهيم العبادي الذي كان بمثابة الأب لكل الشعراء والفنانين، كذلك الكروان كرومة، والعميد الأول الحاج محمد أحمد سرور. في أجواء كهذه كان لابد للفتى التاج مصطفى من التأثر بالمحيط الذي يعيش فيه، قبل أن يبلغ سن اتخاذ القرار في الولوج إلى عالم الغناء الحق بالمعهد العلمي نزولاً على رغبة أهله المتصوفة، فلم يكمل دراسته الدينية به، ليتتلمذ على أيدي محترفي صناعة المعمار، ويُقال إن أشهر رجالات البناء في تلك الفترة كان والد الفنان إبراهيم عوض الحاج عوض عبد المجيد الكنزي والذي يقال إنه تتلمذ على يديه، وتلقى أسرار حرفة البناء المعماري الحديث. تُعتبر الفترة من العام 1939م حتى العام 1942م هي فترة اشتغال الفتى بترديد أغنيات الحقيبة، وبعدها كانت موافقة أسرته على ولوجه عالم الغناء لاستقامته وعدم مقاربته، ما يجعل الناس يرفضون وجوده وسط عالم الغناء والمغنين. شهد شهر يوليو من العام (1942م) دخول عنصر غنائي جديد لعالم الغناء وهو الفنان صاحب الحنجرة القوية والتطريبية الفنان عثمان الشفيع وذلك عبر أثير الإذاعة السودانية، وتلاه بشهر واحد فناننا التاج مصطفى الذي منح الساحة صوتاً غنائياً متفرداً، وقف من بعد ذلك الكثيرون مشيدين به. كان نادي الحديد هو النادي الذي شهد بدايات تغني الفنان التاج مصطفى بصورة تغلب عليها المؤانسة وتزجية الوقت (ليس بصورة جادة)، ولكن بعد دخوله الإذاعة السودانية كمغنٍ بدأ التعامل مع عدد من الشعراء الأفذاذ وهم عبد الرحمن الريح (إنصاف)، عبد المنعم عبد الحي (أنا سهران)، حسن عوض أبو العلا (براى بشيل الهم) وهى الأغنية التي لم يستمع إليها الناس من خلال الأثير الإذاعي، والشاعر الطاهر حسن السني (سيب حياتي)، إضافة إلى الشعراء علي محمود التنقاري، إسماعيل خورشيد، سيف الدين الدسوقي. ويعتبر التاج مصطفى من أوائل الفنانين الذين بحثوا في أمهات الكتب ودواوين الشعر العربي القديم ليأتي بالجديد المدهش، فتغنى للشعراء عبد الوهاب البياتي بأغنيتين الأولى (سؤال العشق) التي تُعتبر من الأغاني غير المسجلة بالإذاعة. تغنى كذلك للشاعر العربي المعروف الشريف الرضي بأغنية لم نعثر عليها، أما أغنية (رب ليل يا حبيبى ضمَّنا فيه السمر) للشاعرة المصرية محاسن رضا. كانت فترة الستينيات بحق فترة الخماسي الرائد في عالم الغناء وهم إبراهيم الكاشف، حسن عطية، سيد خليفة، عثمان حسين، التاج مصطفى، وكان منافسوهم محمد وردي، وعبد العزيز محمد داود الذي تربع منذ العام 1965م على سدّة الغناء الفصيح وحده. في تلك الفترة أتى الفنان التاج مصطفى بأغنية قلبت موازين الغناء رأساً على عقب وهي أغنية الشاعر اللبناني بشارة الخوري (الأخطل الصغير) والتي يقول مطلعها: المها أهدت إليها المقلتين.. والظبا أهدت إليها العنقا أما أغنية (الملهمة) فجاء مطلعها: (نور العيون أنت الأمل.. طال الفراق وأنا في اشتياق)، وهي تعتبر من عيون الغناء السوداني قديمه وحديثه.