(لقمة العيش) هي الاصطلاح الشعبي لتفسير مزاولة أية مهنة مهما كانت طبيعتها، صعبة كانت أم سهلة، آمنة كانت أم خطرة، مربحة كانت أم تكفي لسد الرمق فقط، خاصة مع حالة الغلاء التي لا تعرف التراجع أبداً.. وهنا تبرز تلك المهن التي يباشر أصحابُها ساعات عملهم في وقتٍ يتحضَّر فيه معظمُنا للعشاء أو النوم خلال ساعات المساء والليل... ولا بد من التمييز بداية بين الأعمال ذات الساعات الليلية وبين أعمال الليل.. فالأولى قد تكون عبارة عن امتداد للعمل النهاري، لكن مع التغيير في العاملين، حيث يتم تقسيمهم إلى ورديات نهارية وليلية ومنها المعامل، والمستشفيات والفنادق وسائقو السيارات العمومية وغيرها الكثير.. أما عن أعمال الليل، فهي تلك الأعمال التي تبدأ ساعاتها مساءً وتستمر حتى الفجر مثل المقاهي ومختلف أماكن السهر. (الإنتباهة) التقت بعضاً من هؤلاء الأفراد الذين اختاروا العمل ليلاً على الراحة في منازلهم عارضين أسباب اختيارهم فكانت الحصيلة التالية: متعب ومرهق الضوء محمد أحمد الذي يعمل (فرانًا) بحي الشعبية ببحري بدأ حديثه قائلاً: أنا لم أختر العمل بالليل مطلقًا وإنما هي الحاجة الملحة من أجل توفير لقمة العيش الحلال لأسرتي ومن أعولهم، وأضاف: العمل الليلي متعب ومرهق جدًا خاصة عندما يكون السهر لساعات طوال من غير راحة وبشكلٍ يكاد يكون متواصلاً كل يوم، هذا علاوة على طبيعة الليل المعروفة من إجرام وسرقة وغيرها من الظروف الصعبة التي تمر وتصادف الذين يعملون ليلاً ورغم ذلك كله فهو (أي العمل بالليل) وإلى حدٍ بعيد أفضل من العمل النهاري باعتبار هدوء الليل وسكونه.. لكنه استدرك أنه لو أُتيحت له فرصة العمل بالنهار فلن يتأخر لحظة عنها. تكاليف المعيشة (الطبيب الصيدلي) فخر الدين الطيب الذي يعمل في إحدى الصيدليات بالخرطوم قال إنه اختار العمل الليلي طواعية ولأسباب يراها مقنعة جدًا وهي أنه وفي الفترة النهارية مشغول بالعمل في صيدلية أخرى ولساعات محدودة، وبعدها يذهب إلى البيت لينال قسطًا من الراحة ثم يذهب إلى مقر عمله الثاني الذي لا يبعد عن مكان سكنه الذي يبدأ دوامه من الساعة الحادية عشرة ليلاً إلى الثامنة صباح اليوم التالي، مضيفًا أن تكاليف المعيشة هي التي أجبرته على العمل في دوامين، رغم أن الدوام الأول ليس طويلاً حسب قوله (ساعتان) إلا أنه يمني نفسه بأن يعمل لدوام واحد فقط حتى يرتاح من رهق الليل وسهره الدائم.. ومع هذا كله يرى فخر الدين أن العمل الليلي أفضل من الذي في النهار رغم متاعبه الكثيرة. يتوافق مع دراستي (ب. م) يعمل موظفًا في إحدى شركات التأمين الخاصة قال إنه اختار العمل ليلاً ليس حبًا فيه وإنما لأنه يتوافق مع برنامج دراسته، إذ أنه يدرس في إحدى الجامعات بالخرطوم، مضيفًا أن العمل الليلي به إيجابيات ولكن سلبياته أكثر من إيجابياته فأنا مثلاً أجده يتناسب مع دراستي واحتياجاتها، أما في بقية الجوانب فهو سلبي للغاية سيما السهر المتواصل والإجهاد الشديد، وختم حديثه قائلاً: أتمنى أن أجد عملاً مناسبًا يمكنني من أن أواصل دراستي. هدوء الليل عبير الطيب (طبيبة) تعمل في أحد المستشفيات الخاصة في وردية الليل قالت إنها تعوَّدت على العمل الليلي منذ فترة ليست بالقصيرة ولكنها ورغم طول الفترة ما زالت ترى أن العمل أثناء النهار أفضل من الذي في الليل خاصة للنساء ولأسباب كثيرة، وأضافت: العمل في وردية الليل متعب ومرهق لكن هدوء الليل وسكونه قد يغطي بعضًا من هذه المتاعب لكنه ليس حلاً نهائيًا، مشيرة إلى أنها تسعى للبديل الأفضل. الليل بارد (الليل بارد) كانت هي أول ما قاله عبد الرحمن عثمان الذي يعمل (سائقًا) لعربة أمجاد عندما سألناه عن سبب اختياره للعمل ليلاً، حيث قال إن طبيعة عمله تتطلب الهدوء والسكون؛ ولأني موظف في إحدى الدوائر الحكومية وعندما أفرغ من دوامي اليومي أعود إلى بيتي حتى أنال قسطًا من الراحة وأرتب بعض الأعمال والأشياء الخاصة بالبيت وأمور المعيشة والأولاد حينها تكون الساعة الحادية عشرة أو تزيد قليلاً وهو موعد خروجي للعمل الثاني الذي أعود منه عادة في الفجر أو قبله بقليل.. وعن متاعب الليل يقول عبد الرحمن: رغم أن العمل طويل ومرهق إلا أنه ممتع إلى حدٍ كبير خاصة أن الهدوء والسكون الذي يمتاز به الليل لا يتوفر في النهار، ومع ذلك لا يخفي عبد الرحمن رغبته في أن يترك عمل الليل حتى وإن كانت هذه الأمنية في رحم الغيب إلا أنه يتمنَّى إنزالها واقعًا ولأسباب يحتفظ بها لنفسه كما قال. (ظروفي كدا) هيام الخليفة تعمل (ممرضة) بأحد المستشفيات بالخرطوم أكدت أنها لا تطيق العمل ليلاً وإنما هي مجبورة عليه بسبب أنها لم تجد وظيفة صباحية أو نهارية رغم بحثها المتواصل، وأضافت أن مهنة التمريض تتطلَّب السهر على راحة المرضى والقيام بكل ما يحتاجون إليه من رعاية وعناية في أي وقت يحتاجون إليها فيه، وأشارت هيام إلى أنها استفادت كثيرًا من العمل الليلي الذي علمها طول البال والصبر كما قالت، وقالت إن العمل الليلي بالذات للنساء فيه عدد من المتاعب. متطلبات العمل (م. ع) الذي يعمل صحفيًا بإحدى الصحف التي تصدر في الخرطوم أكد أن طبيعة مهنة الصحافة تتطلَّب اليقظة في كل الأوقات والاستعداد الدائم لاستقبال الأخبار والأحداث الجديدة وتغطيتها؛ لأن العمل الصحفي تكتمل أغلب إن لم يكن جميع مراحله في الفترة المسائية من تصميم وإخراج فني ثم الطباعة الشيء الذي يحتم الوجود بشكلٍ دائم ويومي في مكاتب الصحيفة ولساعات متأخرة جدًا من الليل خاصة إذا كنت تتابع أو تنتظر حدثًا أو خبرًا أو تتقصى عن معلومة، مضيفًا أن العمل الليلي متعب للغاية ويتطلَّب جهدًا مضاعفًا.. لكنه استدرك قائلاً هو مع ذلك ممتع إلى حد كبير. الظروف لها أحكامها الأستاذ عبد المحمود الوداعة الذي يعمل (رئيسًا لقسم التصحيح) بإحدى الصحف السياسية الكبرى بدأ حديثه بقول الله تعالى: (وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا) وقال: لا شك أن الليل للراحة والاستجمام والنهار للعمل والكد في سبيل الأرزاق ولكن ومع طبيعة العمل الصحفي أصبحنا نعمل ليل نهار، مضيفًا أن للظروف أحكامها، موضحًا أن ضغط العمل حرمه من التواصل الاجتماعي وحرمه كذلك من أبنائه الذين يحضر إلى بيته ليلاً وهم نيام، واختتم حديثه قائلاً: (نسأل الله العافية كما نسأله أن يغفر لنا). أعمل شنو حسام الدين طه (طالب بقسم النفط كلية الهندسة) بإحدى الجامعات العريقة بدأ حديثه قائلاً: تقديرًا للظروف التي أمرُّ بها وتكاليف الرسوم الدراسية والمصاريف اليومية وباعتبار أن أسرتي ليست بالخرطوم، إضافة إلى أنهم بسطاء حد الكفاف اخترت أن أعمل ليلاً وأن أدرس في الجامعة بقية الوقت، مضيفًا أنه رغم صعوبة ذلك فإنه لا يملك حلاً آخر خاصة أن دراسته تتطلب التركيز والمتابعة اليومية وأردف قائلاً: بعد أن تأمل في الأفق وبدا الأسى واضحًا على محياه (أعمل شنو قسمتي كدا وأنا راضي بيها والحمد لله). مضطر للعمل الشاب جعفر إسماعيل يبيع الخبز في أحد أفران الخرطوم وهو يعمل من الساعة الرابعة عصرًا إلى الثانية عشرة ليلاً وله أكثر من سنتين في هذا العمل، ويقول عن عمله هذا إنه ممتع وسهل له؛ لأنه قد تعوَّد عليه ولكنه كذلك مضطر للعمل ليلاً رغم أن عمل الليل مرهق ومتعب لكن حسب قوله إن ظروف الحياة أصبحت صعبة. تعويدة الطاهر همت يعمل (عجانًا) بفرن ببحري قال إنه يعمل في الفترة من الساعة الرابعة والنصف عصرًا إلى الساعة السادسة صباح اليوم التالي، مضيفًا أن عمله هذا يتطلب الصبر والتركيز، وعن سبب اختياره لعمل الليل قال إن ظروفه الخاصة والأسرية جعلته يختاره لكنه راضٍ عن عمله ويستمتع به كثيرًا خاصة أن العجن يتطلب إيقاعًا سريعًا في العمل ويختتم الطاهر حديثه قائلاً: (شغلانتنا دي تعويدة وأنا لو لقيت فرصة عمل في النهار ما ح أتردد أبدًا فيها لأن الله تعالى قال: (وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا). وفي نفس الفرن التقينا آدم الهادي حسن الذي يعمل في نفس المهنة وفي نفس زمن الطاهر فقال إن هذا العمل رغم صعوبته لكنه سهل ويجد فيه متعة ويقول: أنا (ولفت على هذا العمل وزي ما عارفين الولف كتال) وقال آدم لن أتردد في العمل في النهار لو لقيت فرصة وقال ممازحًا: (لكن كان خليت شغل العجن البعجن ليكم منو تاني)، مضيفًا أنه يمارس عمله هذا بكل اتقان وحب. مشكلات كثيرة محمد عثمان سليمان (سائق أمجاد) قال إن عمل النهار أفضل لكن مع ظروف الحياة (بقت) صعبة فلا مفر من العمل ليلاً ويمضي بالقول لكن عمل الليل به مشكلات كثيرة من قطاع طرق وعمليات الاحتيال والنصب وغيرها من المشكلات. (30) سنة عمل العم حماد آدم حسين يعمل (فرانًا) في فرن بحي كوبر ببحري قال إنه يعمل في هذه المهنة منذ ثلاثين عامًا ويعمل من الساعة الرابعة عصرًا إلى صباح اليوم التالي وقال مهنتي سهله لأنني ولَّفت عليها وأحببتها لكنها تصير صعبة عندما تتقدم بي السن، مضيفًا أن هذه المهنة تحتاج إلى غذاء جيِّد وراحة في فترة النهار، خاصة أن أفران الغاز ليست كتلك التي تعمل بالحطب، وأضاف قائلاً: (أنا بحترم شغلي دا لأنو أكل عيشي وأستمتع بممارسته وأحبّه جدًا وأستأذن من صاحب العمل عندما أكون محتاجًا للراحة وذلك احترامًا وتقديرًا لهذه المهنة). شغل شاق أبو شنب آدم محمد يعمل (طاولجي) في أحد أفران الخبز بالخرطوم قال إن ظروف الحياة أجبرته على هذا الشغل الشاق، لكنه قال أنا سعيد وراضٍ عن عملي هذا، وقال إنني أخلص وأتفانى فيه؛ لأنه أكل عيشي.