كتب أحدهم يقول إنه معجب بالصادق المهدي في بعض مواقفه الناضرة، وثقافته الباهرة، وتعامله مع السياسة والفكر بجدية ومثابرة. ثم أبدى عجبه، من بعض مواقف وأقوال للصادق المهدي، لم يجد لها من تفسير، ولم يعثر لها على تبرير! وأحصى عددًا من هذه المواقف والأقوال التي عراها التعارض وأنهكها التضارب. والكاتب الذي تعزى إليه السطور السابقة هو من كتاب الصحف السودانية القلائل الذين يملكون ما يمكن أن يطلق عليه تعبير «الرؤية الشاملة» للأمور السياسية. ومع ذلك غاب عنه أن هذا طبع أصيل لاصق بالصادق المهدي لا ينفصل عنه ولا يحول. ويتلخّص هذا الطبع في إدمان «المذكور» اتخاذ المواقف السهلة المسترخصة، أو تلك التي لا تكلِّف شيئاً على الإطلاق. فالمبدأ السياسي الأساسي عند هذا الإنسان هو عدم المبدئية السياسية، وتبعاً لذلك يتجه إلى اتخاذ المواقف السياسية اعتباطاً، فكلما خيِّل إلى نظره القاصر أن هذا الموقف أو ذاك هو موقف نافع وقتياً، وذو مردود ربحي عاجل، اتخذه وتبناه في الحال ولم يبالِ بأي شيء آخر. ولم يتذكر ما كان قد قاله أمس أو أول أمس من قول منافر، أو ما كان قد اتخذه أمس أو أول أمس من موقف مدابر. وهذه الانتهازية السياسية العجولة القاصرة، عند الصادق المهدي، هي العامل الأساسي الذي يؤدي إلى قلة التناسق بين أقواله، وانحطام التلاؤم بين مواقفه، وهي سبب فشله السياسي الذريع وتخبُّطه المريع في أكثر مساعيه. ولا أدري أي شيء إيجابي، ولو صغير، حققه هذا الرجل الذي ظل يطفو على المشهد السياسي السوداني منذ أكثر من نصف قرن؟! ف«ركيِّب السرجين وقيِّع» كما يقول المثل الشعبي السوداني الذي ربما يكون قد دونه بابكر بدري في كتابه واطلع عليه المهدي ولم ينتفع بعظته. ولذا فهو ما زال يريد أن يذبح الدجاجة ليتعشى بها، ويريد، في الوقت نفسه، أن يحتفظ بها لتزوِّده بالبيض، الذي سيفطر به في الأيام التالية.. كما قال الكاتب الصحفي الذي علّق محتارًا على بعض مواقفه الأخيرة. ولا شك أن كل من يمارس الحياة السياسية، ومن يمارس الحياة بوجه عام، على هذا النسق، هو شخص طمّاع، غير عقلاني، ولا واقعي! ولكن للأسف فإن هذه هي إستراتيجيات الطمع السياسي الذي يتحكّم في مسار هذا الزعيم. ولو استعرض امرؤ حياة الصادق المهدي السياسية كلها، منذ أواسط ستينيات القرن الماضي، حيث ظهر على مسرح الدجل السياسي السوداني، وحتى اليوم، وربما إلى آخر يوم في حياته السياسية، لوجد أن هذا هو ميسمهما الظاهر وأبرز ما فيها كلها، ولو أمكن لكاتب أمريكي أو أوروبي، ممن يكتبون مادتهم بتدبر، ورويَّة، وتجويد عال، أن يحرر سيرة سياسية، موثقة، أو غير موثقة، للصادق المهدي لحررها من هذا المنظور، ولجعل الخيط الناظم لها ورود التناقضات الكثيرة، الوفيرة، الغزيرة، في ثناياها. ولشغل نفسه، في باقي كتابه، بتفسيرها من منظور عقلي، نفسي، سياسي، ثقافي - سوداني، طائفي.. وهلمجرا وأما آخر التناقضات التي تورّط فيها زعيم حزب الأمة، وهو ما جرى هذا الأسبوع، وتناوله الكاتب الصحفي السوداني إياه، وإن لم يهتد إلى سره، هو دعوته إلى السودانيين إلى التظاهر واحتلال السفارات، وقيامه في الوقت نفسه بفصل ابن عمه، نصر الدين الهادي، من نيابة رئاسة حزب الأمة! . وسر هذا التصرُّف المتعارض، المتناقض، المتضارب، الذي اضطر إليه الصادق المهدي، سر مكشوف، وواضح، وسافر، وما كان يحوج الكاتب الموقر إلى أن يتجه إلى الماورائيات وعوالم الميتافيزياء ليستكشفه، كما قال. فالموقف المتطرِّف الذي اتخذه ابن الهادي، وهو موقفه في خندق واحد مع الثوريين العرمانيين، قد سبب للصادق المهدي إشكالية أفزعته، فلجأ إلى نزع المنصب عنه. فانخراط نائب رئيس الحزب في حرب مسلحة لإسقاط النظام، بالتعاون مع فلول عصابات قطاع الشمال العنصرية، تعني أن ذلك هو الخط الرسمي لحزب الأمة. ولا يغدو مقبولاً، في أي منطق، القول بأن ذلك هو الموقف الشخصي لابن الهادي، وأنه إنما يتصرف باسمه لا باسم الحزب. واستمرار ذلك الموقف الخياني لنجل الزعيم الوطني الشريف الهادي مهدي، رحمه الله، وإقرار الحزب له، كان سيجعل الحزب برمته في موضع مساءلة في الخرطوم. ولا يريد الصادق أن يدفع هذا الثمن إذا رجع إلى الخرطوم. كما لا يريد أن يلجأ ليعيش في المنفى اللندني الذي اختاره ابن العم لنفسه. فقد عاش في هذه المنافي الاختيارية دهرًا من عمره ولم يجد من وراء العيش فيها إلا ضياع العمر والأجر. وأيضاً لا يريد الصادق أن يتخلى عن شعاره الهلامي المزعوم الذي يتحدث عن الاكتفاء بالمقاومة المدنية والجهاد المدني. وإذن فالحل، الذي ذهب إليه مضطرًا، ولم يجد عنه بديلاً، هو أن يقوم بفصل ابن العم عن نيابة رئاسة الحزب. وقد اتخذ لذلك صيغة ملاطفة هينة، لا يغضب ابن العم، وهي صيغة اتضحت فيها كل مهارة الصادق المهدي، وتبدت فيها خبرته العريقة في مسك العصا من المنتصف. فقد قال هداه الله وألهمه الصدق :« عندما أعلن السيد نصر الدين الهادي المهدي انضمامه للجبهة الثورية السودانية تداول مجلس التنسيق الأعلى في حزب الأمة هذا الأمر الذي تم بقرار منه دون مشاركة أجهزة الحزب المعنية وأصدر الحزب قرارًا بذلك ... وقرر أن يترك أمر السيد نصر الدين وموقعه التنظيمي لرئيس الحزب مراعاة لمكانة السيد نصر الدين ونضاله في العمل الوطني. وقررت ألا اتخذ موقفاً محددًا في الأمر إلا بعد لقاء مباشر مع السيد نصر الدين... وفي لقائي مع السيد نصر الدين أوضحت له أن انضمامه للجبهة الثورية وهو نائب رئيس الحزب يعني انضمام حزب الأمة للجبهة، ومع أن حزب الأمة حريص على الحوار معها من أجل توحيد الكلمة الوطنية حول برنامج السلام العادل الشامل والتحوُّل الديمقراطي الكامل، فإنه لم يقرر الانضمام لتلك الجبهة، ولذلك يمكنه الاستمرار في موقعه الحزبي إذا تخلى عن أية صلة تنظيمية بالجبهة مع مواصلة موقعه الحزبي ومواصلة الحوار مع قيادتها من أجل الاتفاق الإستراتيجي للحل السياسي، أو أن يتخلى عن موقعه في حزب الأمة مع مواصلة موقعه في الجبهة الثورية؛ وبعد تداول بيننا فضل الاحتفاظ بموقعه التنظيمي في الجبهة الثورية، لذلك أصدرت البيان... الذي أعلنت فيه إعفاء السيد نصر الدين من موقعه نائباً لرئيس حزب الأمة». ولولا النَّزَق السياسي الذي هو فرع من طبع المتطرِّف الأرعن نصر الدين الهادي لقبل بقرار فصله من منصبه، وفهمه على أنه نوع من «التكتيك» السياسي، واستمر في أداء دوره «الثوري» التخريبي، مع تنظيم «الجبهة الثورية» العنصري، من أجل إسقاط النظام، تاركاً لابن عمه أن ينخرط في مهام جهاده السلمي المدني المُدَّعى. ولولا ذلك النَّزَق لما توجه هذا الشخص النَّزِق إلى إلى نقد ابن عمه، زعيم الحزب، بهذا الأسلوب الحاد القاسي، الذي اتهمه به في أمانته، وشكك في مصداقيته، واستقلاله، وجديته، قائلاً إن قرار فصله لم يصدر عن حزب الأمة، وإنما صدر من القصر الجمهوري، وأجبر الصادق على التوقيع عليه!!. وهو كلام متهور، مشتط، أجوف، متساقط، نفخ به طيش الغضب في قلب هذا المسمى زورًا بنصر الدين، والذي لا تعرف عنه إلا المساعي المشبوهة، التي جلُّها حرب على الدين، وعون لأعداء الدين. وهي المساعي التي هوت به في فلول الطائش الأكبر، عدو العروبة والإسلام والسودان.. ياسر عرمان.