عندما قال المؤلف المسرحي برتولد بريخت على لسان أحد أبطاله «الذين يضحكون لم يسمعوا بعد بالأنباء السيئة» لم يكن يدري أن القضية سيكون لها ذلك البعد المأسوي: في حانة من حانات مدينة سان سلفادور كان السنيور رودريقوس يحتسي بعض الجُعّة عندما أفرغ جندي الحكومة رصاصاته في صدره فأرداه قتيلاً: فصاح صاحب الحانة بفزع: لماذا أطلقت عليه النار؟ أجاب جندي الحكومة: موعد حظر التجوُّل.. ولكن الساعة الآن الثانية عشرة إلا ربعاً.. بقي من الوقت ربع ساعة.. أجاب جندي الحكومة بوجه يخلو من التعبير: ولكني أعرف أين يسكن السنيور رودريقوس.. ومع صعوبة المواصلات الليلية فإنه بأية حال من الأحوال لا يمكن أن يصل منزله قبل حلول موعد حظر التجول. ثم إن ورديتي أوشكت على الانتهاء. وفي منزل السنيور رودريقوس كان جندي الحكومة يرفع قبعته وينحني لزوجة السنيور رودريقوس وهو ينقل لها الأنباء السيئة. الفيلم «أنا أيُّها الناس أتمتع بأمية قانونية مستفحلة. ربما أكبر من «أمية» الإدارة المركزية. وكل معلوماتي القانونية هي فقرة تقول: «راينولدز فيرساس فلتشر آند ليابيليتي فور فاير». أو (دليقيتاس نن بوتاس دليقاري». وهذه اللغة السريانية حفظتها من الأخ المرحوم الشيخ رحمة الله عندما كنّا نسكن في داخلية بحر العرب وكان يعطيني كتاب القانون ليسمع لي ما حفظه. هذا باختصار هو كل حظي من القانون مع إنني كنت من المواظبين لجلساتهم التي يمثلون فيه الترافع في بعض القضايا.. الإخوة علي سليمان ومحمد يوسف أبو حريرة و الجيلي عبدالمنعم ومحمد الفاتح سكرية وغيرهم من طلاب القانون في ذلك الزمن. وقبل سنوات حضرت اجتماعاً عقد بمدارس المليك بأم درمان ترأسه الأخ المحامي الضليع كمال الجزولي، وكان من ضمن أهدافه إزالة الأمية القانونية وتبصرة المواطنين بحقوقهم التي كفلها لهم القانون فأنا مثلاً لو جاءني شرطي لا قدر الله يحمل أمر قبض على حضرتنا لا أدري ماذا أفعل.. هل أذهب معه أم أتصل بصديق أم أسأل الجمهور والذي هو نفسه لا يدري. وإذا حدث أن أخذ مني بوليس المرور رخصة القيادة هل أتركها عنده؟ أم أصرُّ على أخذ رخصتي؟ وهل من حقه الاحتفاظ بها؟ ماذا تفعل أيُّها المواطنُ الأميُّ وأنت لا تدري حقوقك القانونية؟. لقد ذكرت من قبل أنني وقعت في جدول حفرته سوداتل أمام منزل الأخ الفنان التشكيلي راشد دياب وهو الذي انتشلني من ذلك الجدول. وأصبت بجرح غائر في ساقي ما زالت آثاره باقية لليوم. فماذا كنت أفعل ولمن أتجه بشكواي وأين ستنظر الدعوى؟ وصديقي الدكتور جعفر كرار سقط في مجرى للصرف أمام باب منزله في شارع «واحد» بالعمارات عندما أزال عمال البلدية الغطاء عن المجرى بحجة نظافته ولم يضعوا تنبيهاً بأن حفرة هائلة تقع أمام الباب مباشرة. الدكتور جعفر كرار قضى زمناً طريح الفراش وأخيراً استدعى علاجه السفر إلى لندن. ولم تكن هناك جهة معلومة لرفع شكوى لها. بالرغم من وجود سابقة قانونية مثبتة في كتاب الأستاذ هنري رياض المحامي «أشهر القضايا السودانية» وقد نشرت حيثياتها من قبل وقد كانت تتعلق بالشكوى التي رفعها القاضي ميشيل قطران على سلطات البلدية عندما وقع في مجرى وانكسرت رجله وكانت المحكمة برئاسة القاضي المرحوم أبورنات فحكم له بتعويض معتبر. وأنت كمواطن كل الذي تعرفه هو واجباتك تجاه الدولة والدولة لا تغفل عن تذكيرك بتلك الواجبات والتي هي عبارة عن رسوم تتحصلها منك طوعاً أو كرهاً ولكنك لا تعرف ما هي حقوقك لأنه لا أحد يهتم بذلك. وفي السبعينيات من القرن الماضي كان هناك برنامج تلفزيوني مفيد كان يقدمه الأستاذ كمال شانتير المحامي لسنوات عديدة. وكان ذلك البرنامج الأسبوعي شمعة أضاءها الأستاذ في لجة الجهل القانوني «استشارات قانونية» كنا على الأقل عندما نشاهده يشدنا ونقف على ما ينقصنا من معلومات. والغريب في الأمر أننا اعتدنا أن نسمع عبارة «الجهل بالقانون لا يعفيك من المساءلة» و«القانون لا يحمي المغفلين» ولكننا لم نسمع بعبارة تقول:«الجهل بحقوقك لا يعفي المسؤولين من الإيفاء بها» وقد شكوت هذه المسألة لصديقي الأستاذ خالد التجاني المستشار القانوني لشركة سابحات والذي مارس مهنة القضاء يوماً ما.. فأمّن على ملاحظتي بل وأمدني بمقال قيم نشرته يوم أن نظمنا «مسابقة العلماء المسلمين والعرب» في رمضان من عام مضى وكانت تتعلق بالناحية القانونية للوعد بجائزة وقد كان لها صداها وسط الأميين أمثالي حيث إننا لا نعرف ما الذي يترتب قانونياً على منظمي الجوائز إن هم أخلوا بالشروط أو الوعد الذي قطعوه للمشتركين الفائزين في المسابقات. ووعد مولانا خالد التجاني أن يمدّ القراء بمعلومات قانونية على درجة عالية من الأهمية تشرح لهم حقوقهم وتبصرهم بما يمكن أن يفعلوه. ولقد فعل في عمود بعنوان «أعرف حقك». كما إنني أسمع كثيراً بهذه المقولة تتردد.. وإن هناك هامشاً من الحريات انبسط علينا، وعلينا أن ننبسط أيما انبساط ونعد ذلك من المحاسن التي يٍحتفى بها. ولنختبر هذه العبارة بشيء من التدقيق: يقول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟» و لم يقل: «لِمَ استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم ومعهم هامش حرياتهم». إذن فالأصل هو الحرية. ويحق لنا إذا توصلنا لهذه الحقيقة أن نطرح سؤالاً مهماً : هل الحرية حق أم منحة؟ فإذا كانت الحرية حق من الحقوق التي كفلها الله لعباده فيجب أن تثبت في الدستور على هذا الوضع وتسقط دعوى الهامش، أما إن كانت منحة من الحاكم لرعاياه فهنا ندخل في جدل فقهي قانوني عن مساحة ذلك الهامش ومدى اتساعه أو ضيقه وكيفية التعامل معه. وفي هذه الحالة يتحدث الناس عن الحرية بدلاً عن التصرف بحرية. وأنا لا أدري ما هو المثبت في صلب دستور السودان الذي نحكم به الآن والآخر الذي نعد له العدة. ولكن في اعتقادي أن الهامش ليس هو المتن. بل هو شيء يخضع في مساحته لمزاج السلطة الحاكمة وخاصة إذا تعددت مصادر القرارات. ومن هنا نعود للحديث عن الحقوق في ظل هامش لا يدرك أحد حدوده. ومدد يا أبو هامش.