ذكرنا في المقال الأول كيف أننا نهدر قيمًا كثيرة في حياتنا ومنها قيمة أن يكون للإنسان موقف ورأي في وجوده وبقائه واستمراره في موقع ما من خلال مسؤوليته الأخلاقية والاجتماعية والفهم الصحيح لوظيفة الاستخلاف في الوظيفة العامة، والمشكلة أن هذه القيم التي يعطينا الغرب ودول في شرق آسيا فيها دروسًا كل يوم، هي قيم إسلامية مؤصلة في تراثنا الإسلامي وفعلنا الحضاري منذ أن قال سيدنا «عمر بن الخطاب»«والله لو أن بغلة في العراق عثرت لكان عمر مسؤولاً عنها لِم لمْ يعبد لها الطريق» وقد ذكر لي أستاذ كبير وهو يعلق على مقالي الأول عن واقعة في بريطانيا في عقد الستينيات وفي اقصى الشمال إذ تراكمت نفايات الفحم الحجري في منطقة ابرفان «نتيجة خطأ أو اهمال من جانب المسؤولين في تلك المنطقة مثل ما يحدث عندنا في امكنة متعددة مما أدى لتراكم النفايات لعوامل مناخية بحيث زحفت على مدرسة للأطفال ونجم عن ذلك خسارة كبيرة مما دفع رئيس مجلس إدارة الفحم ومقره في لندن أن يقدم استقالته باعتباره مسؤولاً عن هذا الحدث الذي وقع في مكان ما في إدارته، ومع أن رئيس الوزراء رفض الاستقالة إلا أنه أصر عليها. ومَن مِن جيلنا لم يتابع قضية وزير الدفاع البريطاني «بروفيمو» الذي استقال لأنه كان على علاقة بسكرتيرته التي يشتبه أنها كانت على علاقة بالمخابرات الروسية وأنه ربما عرّض بتلك العلاقة أسرار الدولة للخطر وكان مما قاله إنه مارس الكذب في تلك الواقعة التي شغلت بريطانيا فترة من الوقت. كذلك من الذي لا يذكر استقالة رئيس الصليب الأحمر في فرنسا احتجاجًا على موافقة الدولة على علاج «جورج حبش في بلاده من موقف مبدئي له وكذلك قصة «سير جفري هاو» وزير خارجية بريطانيا لخلاف بينه وبين المرأة الحديدية في السياسة الأوربية. إن استقالة مسؤول لاختلاف وجهة نظره مع رئيسه أو على تصرف للسلطة أو على سياسات خاطئة منفذة كأخطاء في السياسة الزراعية أوسياسة الصادر أو الاستثمار او استقالة مسؤول دفاعًا عن وجهة نظره وقناعاته وكرامته وسمعته ووطنه ما زالت آمالاً تراودنا وتكوّن جزءًا من أحلامنا وطموحاتنا ربما تتحقق في المدى القريب عندما يصل الناس الى قناعة في رفض الواقع المعشعش في الدولة والخدمة المدنية ويعرفوا أن التغيير جهد انساني وفعل عملي وأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. أحيانًا نسمع أن مسؤولاً هدد بالاستقالة من منصبه أمام لجنة مختصة اذا لم يتم اجازة المشروع الذي قدمه أو الميزانية التي طلبها أو غير ذلك فيستبشر الناس وتنشر الصحف الخبر في الصفحة الأولى لأن الخبر يمثل ظاهرة جديدة جريئة في أدبياتنا السياسية ثم يحبط الناس لأن المشروع لم يُجز والطلبات لم تحقق والمسؤول قابع في مكانه مهدر لكرامته نادم على تورطه. وهنا لابد أن نقارن بين الطريقة التي نتولى بها المسؤولية في مجتمعنا والمجتمعات المتحضرة، ففي العالم المتقدم يوجد «عقد اجتماعي» ينظم علاقة السلطة بالمجتمع حيث المسؤولية تكليف اجتماعي بموجب ذلك العقد وحيث يقوم المسؤول بأداء خدمة مدنية لمجتمع يلتزم بواجباته من تمويل ودع ضرائب، اما في النظام الإسلامي فإن المسؤول انسان يقوم بوظيفة الاستخلاف على مصالح الأمة التي اختارته وقدمته باعتباره أجيرًا كما قيل «لمعاوية» رضي الله عنه. ونحن لا نأخذ في هذا الأمر لابالنظام الغربي ولا النظام الإسلامي لأن المسؤول منزل على منصبه انزالاً جويًا فهو لاينوب عن الأمة خدمة وولاء كما أنه لم يأت نتيجة الكفاءة والخبرة الطويلة المميزة والرصيد التاريخي والمنافسة الحرة والكفاءة العالية والتفوق على الآخرين في مجاله لذا فإن فكرة الاستقالة غير واردة لأن عليه أن يبقى أويذهب أو يغير موقعه حسب ارادة وقناعة من انزله في الموقع وربما يسمع بعزله من وسائل الإعلام لأن الفكرة السائدة هي الاستمرار والولاء للمنزل حتى اشعار آخر وان كان الإطارالشكلي هو الوطن الذي اختُزل في السلطة وهنا تأتي نظرية أهل الولاء والثقة في مقابل أهل الكفاءة والخبرة حيث الغلبة في العالم العربي والسودان بخاصة لأهل الولاء والثقة الذين صنعتهم الظروف ورشحتهم مؤهلات غير ما تعارف عليها الناس فهم الذين هبطوا من السماء وتلقفتهم الأرض ثم يطعمون بين الحين والآخر بقلة ممن صنعوا أنفسهم وفرضوا وجودهم بعلمهم وخبرتهم وصعدوا السلم من أوله كل ذلك حفظًا للتوازن وكف العين.