لقد أكرمنا الله سبحانه وتعالى بأن جعلنا من المقيمين في هذا البلد الطيب بالقرب من بيته الحرام ومسجد نبيه الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم وبذلك فهي فرصة لنا جميعًا أن نتردَّد على الحرمين الشريفين للصلاة والتفكُّر والتدبُّر وقراءة القرآن والوقوف على فحوى ومعنى وتفسير الآيات ومعلوم أن القرآن الكريم يصلح لكل زمان ومكان وفيه من القصص والعبر والعظات والتشريعات ما يكفي لجلب السعادة لبني البشر إذا ما استمسكوا به وجعلوه دستورهم في الحياة الدنيا، ومعلوم أيضًا ما يحويه القرآن الكريم من إعجاز وأن بلاغة القرآن لا تدانيها بلاغة وهذا كله مدعاة لبذل الكثير من الجهد للوقوف على عظمة كلام الله. قال تعالى في سورة المدثر (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ)، انظر إلى هذه الصياغة الإلهية لهذه الكلمات التي ارتفعت إلى أعلى درجات الكمال في التشبيه، كنت لا أذهب في فهم هذه الكلمات إلى أبعد من المعنى القريب ولكن ذهب العلماء والمفسِّرون مذاهب شتى في توضيح معنى ومبنى هذه الآيات ليصبح التشبيه المراد صالحًا لكل زمان ومكان بما في ذلك زماننا هذا، وهذه هي قدرة الله التي تجلت في عظمة وبلاغة القرآن الكريم. جاء في شرح هذه الآيات أن الله سبحانه وتعالى شبه المعرضين (عن الحق) بحمر الوحش التي فرت من الأسد أو الرامي وهذا إبداع في التمثيل. قال ابن القيّم: (إن البلاغة هنا تكمن في كلمة (مستنفرة) فهي معنى أبلغ من النافرة؛ لأنها من شدة نفورها استنفر بعضها بعضًا وحضه على النفور فإن في الاستفعال من الطلب قدرًا زائدًا على الفعل المجرد فكأنها تواصت بالنفور وتواطأت عليه.. انتهى). والقصد مختصرًا هو (الإعراض عن الحق) وفي ذلك ذم شديد.. وبالرغم من أن هذه الآيات جاءت لتصور وضعًا محددًا إلا أنني أعتقد أن الإعراض عن الحق الحق مطلقًا سيظل ملازمًا لبعض بني البشر في حياتهم ما لم يتحرَّروا من الصلف والكبر والبله والبلادة، وأخشى أن تكون هذه الصور المشينة موجودة في وقتنا الراهن وذلك لما نلحظه من مظاهر مجتمعية سالبة من سوء ظن بين بعض الناس وإساءات وادعاءات واتهامات باطلة وتجريد للحق وكذب وجهل مطبوع وظلم ونكران للجميل.. فإذا كان الوضع كذلك فما أشبه الليلة بالبارحة..