شهدت من بعد ظهيرة يوم الجمعة الماضي في قطاع غزة حدثًا فريدًا ونوعيًا لم يكن له مثيل منذ سنوات طوال. فقد رفرفت مئات الآلاف من الأعلام الخضراء التي ترمز الى حركة المقاومة الاسلامية في سماء القطاع التي اعتادت حتى وقت قريب أن تتشظى فيها القنابل العنقودية التي تلقيها الطائرات الاسرائيلية في اعتداءاتها المتكررة على سكان القطاع، مخلفة وراءها النساء في بيوتهن والأطفال في مدارسهم، وهم تلتهب أجسادهم من شظاياها. رفرفت الأعلام الخضراء وهي تحتفل في استثنائية لم تحدث من قبل، بالذكرى الخامسة والعشرين لتأسيس حركة المقاومة الاسلامية والتي كانت في العام السابع من عقد الثمانينيات، الوقت الذي شهد انطلاق الشرارة الأولى للانتفاضة ضد الاحتلال الاسرائيلي في قطاع غزة والضفة الغربية. ووجه الاستثناء الذي يشهده الاحتفال هذا هو حضور خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس على رأس وفد مقدر من بعض قيادات المقاومة في الخارج. ان الرمزية التي تحملها زيارة مشعل للقطاع هي أكبر بكثير من مجرد زيارة لم تحدث منذ أكثر من خمسة وأربعين عامًا هي الفترة التي ظل فيها مشعل مبعدًا عن القطاع ومن ثم تحت ظل التهديدات الإسرائيلية باغتياله حال دخوله اليه. فقد غادر مشعل الضفة الغربية بعيد اجتياح «67» الى الكويت مع أسرته وهو لم يزل طفلاً ثم الى الأردن حيث بقي بها حتى تسلم رئاسة الحركة بعد اغتيال العدو الصهيوني للشيخ أحمد ياسين رئيس الحركة السابق. وظل مشعل مهددًا بالاغتيال طيلة السنوات الماضيات من قبل الموساد، بل ونفذت محاولة لاغتياله في الأردن في نهاية التسعينيات من الألفية الماضية وذلك بعد أن تم حقنه بمادة سامة من قبل بعض عملاء المخابرات الإسرائيلية وكان للمحاولة أن تكتمل بنجاح لولا تدخل الملك حسين العاهل الأردني وقتها، ومطالبته لتل أبيب بتسليمه المصل المضاد للسم. لقد لعبت الكثير من المتغيرات على الساحة الاقليمية والدولية في السنوات الأخيرة دورًا كبيرًا في اعادة كتابة المعادلة الشرق أوسطية مما أدى الى وقوع اسرائيل داخل مثلث عزلة لم تحسب لها حسابًا من قبل. تمثل اول أضلاع هذا المثلث في تداعيات الحراك الشعبي في المنطقة العربية والذي أدى الى اطاحة الكثير من الأنظمة التي كانت وثيقة الصلة بتل أبيب، بل وكان بعضها يمثل حائطًا خلفيًا لإسرائيل في المنطقة، ثم اكتمل الضلع الثاني بانتقال تركيا من خانة اللاعب الصامت الى خانة جديدة رافضة لمواقف تل أبيب برغم الكثير من الترتيبات الأمنية والاقتصادية بينهما وذلك مقترنًا بموقف مشابه لكنه أعلى صوتًا أصبحت تتبناه ايران، ثم أغلق المثلث بضلع مثله مؤخرًا موقف أوروبي لا يمكن اعتباره داعمًا للحق الفلسطيني بصفة رسمية، لكنه بالمقابل أصبح رافضًا للسياسات التي تنتهجها اسرائيل ضد الفلسطينيين وهو ما أدى الى تبني الاتحاد الأوربي لمقاربة تعمل على توحيد موقفي حماس وفتح ما يعني تغليب صوت المقاومة على صوت المفاوض الذي ظلت تلعبه السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية لسنوات. ولعل حضور حركة فتح ممثلاً في شخصيات قيادية لاحتفالات تأسيسية حماس هذا العام يعطي مؤشرًا قويًا على مستجدات كثيرة تحدث بين الطرفين بل وربما يعني بلوغ مرحلة جديدة تقوم على الشراكة السياسية مما يمهد للكثير في مقبل الأيام ويعطي مؤشرات جيدة لإعادة صياغة المشهد السياسي الفلسطيني وفق معطياته الجديدة. كما أن الكثير من دول العالم الآن بدأت تتبين حقيقة الوضع في الأراضي الفلسطينية بمجملها، فوفقًا لنظرية صراع المصالح، تأكد للرأي العام العالمي حقيقة أن اسرائيل لا تؤمن بمشروعات السلام مع الفلسطينيين، بل وبأكثر من ذلك لا تريد ولا تؤمن بقيام دولة فلسطينية بجوارها ولو وفق الحدود التي رسمتها لها. ان كل ذلك مجتمعًا يعني شيئًا واحدًا وهو سقوط الوهم الذي زرعته اسرائيل في مخيلة العالم عقودًا عددًا وهو ما سيؤدي الى تغييرات جذرية في المنطقة في القريب العاجل. لقد كان للمقاومة الفلسطينية في غزة دور كبير ومؤثر في صيرورة الوضع الماثل الآن بكل تجلياته المشرقة، فبدون احتساب سنوات الصمود الطوال الماضيات فإن عمليات المقاومة الأخيرة التي ضربت العمق الاسرائيلي في تل أبيب والقدس ردًا على اغتيال «أحمد الجعبري» القيادي بحماس مؤخرًا، هذه العمليات وما استتبعها من جهود دولية واقليمية لاحتواء الموقف المشتعل، والطريقة التي أدارت بها حماس طاولة التفاوض من موقع القوة قد ساهم كثيرًا في تعزيز مكانتها سياسيًا على المستوى الاقليمي والدولي، وما زيارة مشعل للقطاع الا تأكيد على أن المقاومة الاسلامية ومعها كل الفصائل قد نجحت في كل معاركها، السياسية والدبلوماسية والعسكرية وانتقلت بذلك من حالة اللا شرعية التي ظل العالم ينظر اليها عبرها الى حالة الشرعية التي ستفرض واقعًا جديدًا لصالح كل الفلسطينيين. كما أن الخطاب الايجابي الذي ألقاه رئيس الحركة في الاحتفالية بخصوص مرجعية السلطة لمنظمة التحرير بعد بنائها هو خطاب جدير بأن تقرأه كل الفصائل في القطاع وفي الضفة قراءة متأنية ومنفتحة من أجل الدفع بالمصالحة الوطنية وانهاء حالة الانقسام بين حركتي فتح وحماس وصولاً الى برنامج سياسي موحد من أجل نقل المعركة الى أبعاد أخرى، خاصة بعد النجاح الدبلوماسي الذي حققته السلطة الفلسطينية في أروقة الأممالمتحدة بانتزاع الاعتراف الدولي بفلسطين ضاربة باتفاقاتها وتفاهماتها مع تل أبيب بخصوص هذا الأمر عرض الحائط. وهو نجاح سيؤدي بلا شك الى اعادة وضع القضية الفلسطينية على أجندة المجتمع الدولي، وعلى أسوأ الفروض سيعمل على ابقاء ملف القضية مفتوحًا. ان زيارة خالد مشعل الى غزة يعقد عليها المشفقون على الوضع الفلسطيني آمالاً كبيرة في أن تعيد ترتيب الكثير من الأوضاع داخل بيت الحركة وبأكثر من ذلك داخل البيت الفلسطيني الكبير، فهي تأتي في ظروف مواتية عقب انتصارات كثيرة على كل المستويات الدبلوماسية والعسكرية. وهي بلا شك ستمثل محطة مفصلية في تطور الحركة ومن ثم القفز بمستويات الصراع مع العدو الى مربعات جديدة لن تكون بدايتها انتزاع حق الدخول وزيارة غزة فقط، بل ستتمدد لتصل الى انتزاع الحق في استرداد كامل فلسطين.