هناك من تصيبهم الحساسية عندما تذكر العصا، ولا يجدون غير أن يتخيلوها مقرونة مع قصيدة أبو الطيب المتنبي التي يقول فيها: «عيد بأية حال عدت يا عيد»، على أن ذكر العصا لم يكن وقفاً على ذلك الشاعر العربي المشهور الذي ظل يبحث عن الولاية حتى حفيت قدماه واستجدى سيف الدولة أن يوليه، فتأبى عليه ورفض طلبه، مما جعله يتجه إلى كافور الأخشيدي ملك مصر في ذلك الحين الذي يبدو أنه كان ذا أصول زنجية، وقام المتنبي بهجاء سيف الدولة ومدح كافور، ويقول في قصيدته التي مطلعها: «قواصد كافور توارك غيره ومن قصد البحر استقل السواقيا»، فكأنه هنا يريد أن يقول إن كافور بحر بينما سيف الدولة «ساقية ساكت»، ولما قابله كافور بالنكران ذكره بالموضوع إياه، ولم ينس بالطبع قصة العصا، على أن أشهر العصي على أيامنا هذه هي العصا الأمريكية التي تأتي غالباً مقرونة مع الجزرة، وهي سياسة أمريكية وعرف كاد أن يكون قانوناً في التعامل مع أمريكا. والولايات المتحدة ليس لها أي وازع أخلاقي أو ديني من ارتكاب جريمة الضرب بالعصا إن لم تجد أن الجزرة أي الرشوة قد أفادت، ولهذا فإن العصا المشهورة عالمياً بعد عصا المتنبي في هجائه لكافور الأخشيدي هي العصا الأمريكية. والتلفزيون السوداني الذي يحتفل هذه الأيام باليوبيل الذهبي بمرور خمسين عاماً على إنشائه، عرض أول أمس حلقة من برنامج «صور شعبية» الذي كان يقدمه المرحوم الطيب محمد الطيب قبل أربعين عاماً، وكانت الحلقة مخصصة للعصي وأنواعها وأشكالها وأطوالها وأسمائها، حيث جاء أن أهلنا البجة هم أكثر السودانيين براعة فيها وأكثر السودانيين معرفة وثقافة في استعمال العصا. ولعلنا لا ننسى أن نذكر أخانا دكتور عبد العظيم ميرغني مدير الغابات بأن كل العصي السودانية تأتي خصماً على غاباته عن طريق القطع الجائر والمنهك وغير المخطط. وهناك العصي الضخمة التي تُسمَّى «العكاز» ويعرفها المصريون «بالنبوت» ويختلف العكاز في الحجم والشكل باختلاف أغراض الاستعمال. فالمعروف أن «الصعاليك» والهمباتة و«الربابيط» يستعملون أكبر العكاكيز حجماً، يليهم أصحاب المهن المختلفة مثل العاملين في قطاع صناعة المراتب والمخدات، أو الذين يستعملون العكاكيز لأغراض الحصاد و«دق العيش».. وهناك من العكاكيز ما يمكن استعماله بدلاً من «يد الفندك»، ومن أشهر العصي التي ارتبطت بأهلنا الصوفية عصا الشيخ حامد «أب عصاية»، وهو بالمناسبة جد الأستاذ غازي سليمان وبدر الدين سليمان وهو جعلي عمرابي. وهناك عصا تعرف بعصا «العز» وهي نوع من العصي يستعمل فقط لأغراض الوجاهة والونسة و «الشخبطة» على الأرض أثناء الكلام وحل المشكلات وهي غير مخصصة للقتال والدواس. وما يهم أخونا دكتور عبد العظيم وأهل البيئة بشكل مباشر، هو أن الإحصاءات التي قمنا بقصد محاولة تقدير الفاقد في الغابات، وجدنا فيها أن تأثير صناعة العناقريب والبنابر والعكاكيز والسروج يكاد يكون منهكاً جداً للغابات المعروفة «بالأكاشيا» ACACIA. ومنها الطلح والسنط والهشاب والسلم والسمر، وثلاثون نوعاً آخر كلها أشجار شوكية تنتج العكاكيز. على أننا وجدنا أن هناك أكثر من عشرين مليون سوداني من الرجال والشباب والأطفال وحتى بعض النساء يستعملون العصي والكاكيز و«الدقارات» والمطارق والحداثات، ولا يشذ حتى أئمة المساجد. ويبقى أننا نحتاج في السودان إلى ما لا يقل عن ثلاثين مليون عكاز وعصا يجب توفرها كل عام أو كل عامين على أحسن الفروض، وهذا بالطبع غير المتوفر في السوق المحلي والمعروض لأغراض البيع، وبهذا يكون استهلاكنا من العصي والعكاكيز في خمسة أعوام لا يقل عن مائة وخمسين مليون عكاز قد يصل وزنها إلى ثلاثمائة مليون كيلوجرام، اعتماداً على نوعية الخشب إن كان سلماً أو سنطاً أو «سرهيت»، ويبلغ ثمنها ما لا يقل عن سبعمائة وخمسين مليار جنيه بالقديم .. يعني العكاز بخمسة جنيهات بس بالجديد. وقد لا يدري الكثيرون أننا لكي نحصل على مائة وخسين مليون عكاز قد نحتاج إلى أن نقطع مائة وخمسين مليون فرع رئيس من فروع الأشجار المنتجة والحامية للبيئة، ونكون قد ساهمنا في مشكلة الاحتباس الحراري والزحف الصحراوي والجفاف. أخيراً نذكر بالشاعر الذي غنى مادحاً الشيخ مصطفى وقال إنه عقد الدم بالعصا.. أي حقن الدماء فقط وهو يتحدث بعصاته، بينما قدم للضيوف ثلاثة أرادب غداء وثلاثة أرادب عشاء. كسرة: سمعنا قبل يومين أن مصنع النيل الأبيض سوف ينتج ثلاثين مليون طن من قصب السكر، وبعضهم قبل شهر قال إن المصنع سوف ينتج أربعمائة وخمسين ألف طن من السكر، وصحف الأمس قالت إن المصنع أنتج عشرة آلاف جوال الأسبوع الماضي. وكل هذه الحاجات لا تعطي فهماً محدداً، لأننا لا نعرف نسبة السكر في الكم مليون طن من القصب، وسمعنا أن الطاقة القصوى أربعمائة وخمسون طناً، وبعضهم يقول إن المصنع مازال يعاني، والمطلوب إعلان بالحالة الراهنة وبكل الشفافية، حتى يتمكن المصنع من الإنتاج بالطاقة القصوى؟ متين يا جماعة؟!