رغم أننا لا نعرف نهاية للشوط الأول من مباراة ما بعد الثورة، فإن خبرة الأسابيع الثلاثة الأخيرة زودتنا بكمٍّ من الإشارات والملامح الدالة التى تستحق القراءة، قبل أن ننتقل إلى الشوط الثانى الذى أرجو أن يكون أفضل. (1) لا مفر من التذكير بأن ما تشهده مصر من توتر وتجاذب وصراعات يظل قليلاً من كثير عرفته مختلف الثورات على مدى التاريخ، بالأخص فى فترات الانتقال التى يخرج خلالها المجتمع من تحت أنقاض النظام القديم، ويسعى جاهداً للخلاص من أصدائه وتشوهاته، وهى معاناة تزداد آلامها حين يصبح النظام الجديد حلماً لا ترى ملامحه، وروحاً تسرى فى جسد مثخن بالجراح. لكنه يظل مفتقداً للطبيب الثقة الذى يداويه. ينطبق ذلك على الثورة المصرية التى لا تزال جسماً بلا رأس، بعدما فشلت محاولات زراعة رأس له. وأثبتت تجربة العشرين شهراً الماضية أن كل الرؤوس التى ركبت على الجسد كانت أصغر منه. لقد أثبتت التجربة أن المعركة ضد النظام المستبد أسهل وأهون وأقل كلفة من العراك بين الرفاق. إذ كان من اليسير حسم الأمر مع نظام مبارك خلال «18» يوماً، لكننا فشلنا فى أن نسوى ما بيننا منذ نحو عشرين شهراً. إذ فى حين بدأنا بحماس عارم عبرت عنه يد واحدة، فإننا تحولنا خلال تلك الأشهر إلى فكر مشتت، وعضلات تتصارع. وليت الأمر وقف عند حد الاختلاف، لكنه تطور وتحول إلى ما يشبه الطلاق. الذى قد يتعذر فى ظله استمرار العيش تحت سقف واحد. الأسوأ من ذلك أن الخلاف لم يكن سياسياً، لكنه بدا أعمق وأكثر تجذراً، حين اصطف الإسلاميون فى جانب، واحتشد الآخرون باختلاف هوياتهم الفكرية السياسية والدينية فى الجانب المقابل. وبلغ الاستقطاب حدا ألغى كتلة الوسط. الأمر الذى قسم البلد بلدين على الصعيد الفكري والسياسي. وصرنا أقرب إلى الواقع اللبناني بنظامه الطائفي المهيأ للانقسام، الذى توزع الناس فيه بين فريق استظل بجماعة «14» آذار وأخرى انتسبت إلى ما سُمى تجمع «8»آذار. ولأنه لا تكاد توجد مؤسسات أو أوعية حقيقية للحوار المجتمعي فى مصر، فإن التجاذب انتقل إلى الشارع وإلى شاشات التلفزيون. (2) لأن الأجواء الإيجابية تستخرج من الناس أفضل ما فيهم، فإن الانقسام المختلط بالاحتقان أحدث العكس، حيث استخرج من المجتمع سيئات لم تكن تخطر على البال. إذ استسلمت النخبة للاستقطاب وتوزعت على المعسكرين المتجاذبين، وبالتالي فإنها صارت جزءاً من المشكلة. وبدلاً من أن يظل المثقف ضمير وطنه، فإنه صار فى ظل حدة وعمق الاستقطاب الراهن لسان جماعته أو فريقه. ليس ذلك وليد لحظة الأزمة الراهنة بطبيعة الحال، لكنه ظهر بوضوح منذ طرح الاستفتاء على التعديلات الدستورية فى شهر مارس من العام الماضى «2011»، الذى كان بمثابة أول اختبار لتبيان موازين القوى الحقيقية فى مصر العائدة إلى السياسة بعد طول حجر وتغييب. بل أن مقدمات الاستقطاب ظهرت منذ تشكلت لجنة التعديلات، وكان على رأسها مسلم ملتزم وغيور على دينه هو المستشار طارق البشرى، وتبين أن من أعضائها السبعة قانونياً إخوانياً هو الأستاذ صبحي الصالح. وقد أثار وجود الاثنين بين السبعة امتعاض العلمانيين واليساريين وغلاة الليبراليين، الذين اعتبروا البشرى «مشبوهاً» (ألا يستحق الرجل اعتذاراً منهم الآن بعدما أثبتت مواقفه أنه فوق الشبهة، وأصبح الذين اتهموه بالأمس يمتدحونه ويستشهدون بآرائه اليوم؟). أما الثاني فقد صار متهماً ومداناً، ولم يغفر له أنه كان عضواً فى اللجنة التشريعية بمجلس الشعب الأسبق. ما يحدث الآن فى مصر، تجاذب وصخب مطابق لما شهدناه أيام الاستفتاء، وإن اختلف فى الدرجة وأساليب الاشتباك. فالنخبة التى اصطفت ضد التعديلات هى ذاتها التى تخاطب المجتمع الآن، والإعلام المناهض والمحرض لم يغير من سياسته. أما الجديد فى الأمر فهو أن شارع المدينة أصبح طرفاً فى الاشتباك، مع ما ترتب على ذلك من أحداث عنف مؤسفة ومحزنة. توالت بعد ذلك المفاجآت، بعدما ظهرت نتائج الاستفتاء وكانت نتيجة انتخابات مجلس الشعب مخيبة لآمال الفريق الآخر، إلى أن فاز أحد القياديين فى الإخوان برئاسة الجمهورية. ومنذ ذلك الحين حدثت تطورات كثيرة غيرت من ملامح البيئة السياسية فى مصر. (3) إذا حاولنا أن نرصد أهم تلك الملامح فسوف نجد أن أبرزها ما يلى: هيمن الصراع بين الفريقين على الساحة السياسية، ولم تتمكن كتلة شباب الثورة من أن تؤسس منبراً مستقلاً يعبر عنها، وحين تشتت وتوزعت على عديد من الجماعات والائتلافات، فإن حضورها ضعف كثيراً إلى أن ذابت فى الصيغ التقليدية. تطور الصراع بين العلمانيين والإسلاميين «حرص الأولون على تقديمه بحسبانه صراعاً بين القوى المدنية والدينية» من صراع حدود إلى صراع وجود كما يقال. أعني أنه كان تنافساً بين الفريقين على إثبات الحضور فى الساحة، ثم أصبح أخيرا صراعاً استهدف إقصاء الآخر وإخراجه من الساحة. تجسد ذلك الأصوات التى ارتفعت أخيرا ودعت إلى إسقاط النظام، وإشهار بطاقة الطرد الحمراء فى وجه الرئيس محمد مرسى، كما تجلى فى الهجوم على المقر الرئيسي للإخوان والعديد من المقار الفرعية. ٭ فى غمرة مساعي الإقصاء ومحاولات إنهاء الوجود وقع بعض السياسيين فى المحظور. فمنهم من دعا إلى تدخل الجيش لإنهاء الصراع، ومنهم من أبدى ترحيباً بالتحالف مع فلول النظام السابق لمواجهة الإخوان الذين اعتبروهم «خصما مشتركاً» للاثنين. الأمر الذى عبر عن الاستعداد للتضحية بالثورة ذاتها من أجل الفوز على الطرف الآخر. ٭ تورط الطرف الإسلامى فى محظور آخر، تمثل فى إقحام الهوية الدينية فى الصراع الذى هو سياسي بالأساس. إذ اعتبروا أن الاشتباك معهم أو معارضتهم موجه ضد الإسلام، فيما بدا أنه نوع من التكفير السياسي. وكانت «مليونية» الشريعة والشرعية التى نظمها الإسلاميون فى ميدان نهضة مصر بمثابة تجسيد لذلك الخطأ. ٭ ظهر فلول النظام بوضوح فى الساحة السياسية فى إعلان مبطن عن أن سقوط مبارك لم يؤد إلى القطيعة مع نظامه الذى لا تزال له امتداداته. ورأينا أن الفلول تشجعوا وسعوا إلى تشكيل حزب سياسي، ويبدو أن التشجيع لم يكن مصدره ما حدث فى الداخل من هرج وخلط للأوراق فحسب، ولكنه يستند أيضا إلى بعض الأطراف العربية التى لها موقفها السلبي من الثورة. ٭ ظهر القضاء بعض المعبرين عنه على الأقل طرفاً فى الساحة السياسية، وكانت سابقة حل مجلس الشعب بصورة متعسفة استناداً إلى حيثيات حكم للمحكمة الدستورية شاهداً على ذلك، الأمر الذى فتح الباب للطعن فى مختلف محاولات تأسيس النظام الجديد وعرقلة تقدمه. وكان موقف نادي القضاة الأخير من قرارات رئيس الجمهورية نموذجاً آخر للتسييس، الذى أفقد القضاء حياده، بل أفقده أيضا وقاره حين استخدم المعبرون عن القضاة لغة هابطة أثناء الاشتباك مع السلطة. ٭ الكنيسة الأرثوذكسية دخلت بدورها حلبة التسييس، وتبنت مواقف وتحيزات بدت خلالها طرفا فى الاستقطاب السياسي وتختلت عن دورها كقيادة روحية. وهو ما تجلى فى انسحابها من الجمعية التأسيسية للدستور، ودخولها طرفاً فى معترك معارضة رئيس الدولة ودعوتها إلى مقاطعة الاستفتاء على الدستور. بل أن الكنيسة دخلت فى الاصطفاف حداً دفعها إلى الاعتذار عن عدم استقبال مرشد الإخوان حين أراد تهنئة البطريرك الجديد بتوليه منصبه. ٭ فى خضم صراعات نخبة المثقفين والسياسيين، تراجع الاهتمام بمشكلات المجتمع ومعاناة الناس، وأصبح اهتمام النخب بتسجيل النقاط فى مواجهة خصومهم وتسابقهم على الأنصبة والحظوظ، مقدماً ومنفصلاً عن المشكلات الحياتية للجماهير، غير المعنية بكل ما يتصارعون حوله. (4) فى عالم الرياضة يقسمون الفرق درجات بمعيار التفوق والكفاءة، كما أن المحررين الرياضيين والنقاد اعتادوا أن يختموا استعراضهم للمباريات بإعطاء علامات للاعبين. وقد خطر لى أن اقتبس الفكرة فى التعليق على المباراة الجارية بالساحة السياسية المصرية، واضعاً فى الاعتبار أن المباراة لم تنته بعد، وأنها لا تزال فى شوطها الأول. من هذه الزاوية أزعم أننا بصدد فريق التحق حديثاً بدوري السياسة، ولم يتحدد بعد موقعه وترتيبه بين الفرق الهابطة. أما اللاعبون فهم بين هواة دخلوا إلى الملعب مصادفة أو وجدوا أنفسهم فى قلبه فجأة. وبين لاعبين تجاوزوا بالكاد طور اللعب بالكرة الشراب، وقدموا من حواري السياسة ليبدأوا رحلتهم مع الأندية. أعني أننا بإزاء لاعبين من الفرز الثاني أو الثالث، بعضهم من متوسطي القدرة وبعضهم يستحقون العطف والرثاء ومنهم من ينصح بالبحث عن لعبة أخرى يؤديها. وجميعهم يحتاجون إلى مدربين ودروس خصوصية مكثفة. وما أدعيه ينطبق على القوى المدنية وعلى الإخوان والسلفيين. وجميعهم معذورون، لأنهم حديثو عهد بمثل هذه المباريات، التى حرموا منها طوال الستين سنة الماضية. لذلك أزعم أنهم مظلومون وظالمون. هم مظلومون لأنهم لم يمكنوا من النزول إلى الملعب فى السابق، وظالمون لأنهم تسابقوا على حمل عبء لم يكونوا قادرين عليه. ولم يدركوا أن مصر أكبر منهم مجتمعين، ناهيك عن أنها أكبر من أي فصيل مهما كان حجمه. ولا بد أن نعترف بأن الجميع فى مرحلة «الحضانة» السياسية ولا يزالون يتعلمون أبجديات اللعبة. وقد قصدت التعميم حتى لا يدعي أحد أنه أفضل من الآخر. وإذا عنَّ لفصيل أن يدعي أنه أقدم من غيره. فإننى أذكِّر بأن بقاءه طويلاً على الشاطئ ليس دليلاً على أنه بات يجيد السباحة. حتى إذا كان البعض فى السنة الأولى من الحضانة، ووجدنا أن البعض الآخر فى السنة الثانية، فذلك لا ينفى أن الجميع لا يزالون فى الحضانة ولم يتجاوزوها. سأتحدث عن الإخوان المسلمين باعتبار أنهم القوة الأكبر والأفضل تنظيماً، وأزعم فى هذا الصدد أنهم إذا كانوا قد نجحوا فى قيادة وتنظيم الجماعة، فإنهم لم ينجحوا فى قيادة سفينة الوطن. ولم يدركوا أن مصر أكبر منهم، ولذلك فإنهم لم يحسنوا الائتلاف مع غيرهم، رغم اقتناعي أن بين الآخرين من صدَّهم ورفض الائتلاف معهم. وقد خسروا حلفاءهم ونسبة غير قليلة من محبيهم خلال الأشهر الأخيرة. كما أن المتحدثين باسمهم كثيراً ما حالفهم عدم التوفيق فى خطابهم الذى سحب من رصيد الجماعة وأسهم فى تشويه صورتها. ثم إنه لا مفر من الاعتراف بأن اصطفافهم مع السلفيين حمَّلهم بأوزار خطايا غلاة السلفيين الذين أثاروا غضب المجتمع ونفوره. بقيت كلمة عن الرئيس محمد مرسي الذى يقف فى مقدمة اللاعبين. الذى يحسب عليه أنه خاطب رواد المساجد بأكثر مما خاطب جموع الشعب المصرى، وحين تحدث إلى الجموع فإن خطابه لم يكن بالشفافية المرجوة. وتجلى ذلك فى الإعلان الدستوري الذى فاجأنا به لاعتبارات وضرورات لم يكشف عنها. وتبين لاحقاً أنه لم يرجع إلى مستشاريه فيه، الأمر الذى فرغ فكرة مؤسسة الرئاسة من مضمونها، وأوقعه فى أخطاء كلفته الكثير. وكان نتيجة ذلك أن عدداً غير قليل من مستشاريه تخلوا عنه بعد خمسة أشهر من توليه للسلطة. كما أنه خسر مؤيديه من خارج التيار الإسلامي، الذين كان قد اجتمع بهم حين احتدمت حملته الانتخابية. واتفق معهم على أمور لم يستطع الوفاء بها. ولم يتواصل معهم بعد ذلك ليشرح لهم الظروف التى اضطرته إلى ذلك، الأمر الذى أثر سلباً على ثقتهم فى وعوده. لا أريد التسرع فى تحديد علامات للاعبين، ولا أمانع فى أن يفعل ذلك غيري. لكني أذكر بأمرين أحدهما أن المباراة الحقيقية بدأت منذ خمسة أشهر فقط، بعدما تولى الرئيس السلطة. وثانيهما أن «البدلاء» الذين نراهم خارج الملعب ليسوا أفضل كثيراً، ومنهم من يجيد دور المشاهد بأكثر من إجادته لدور اللاعب.