يمنعنا الصمت الانتخابى من أن نتحدث عن الذى سيجرى فى مصر، لكنه لا يحول دون أن نأخذ راحتنا فى الحديث عن الذى جرى. 1 لن نقع فى المحظور إذا قلنا إن باب المفاجآت مفتوح على مصراعيه لأكثر من سبب. فقلة خبرتنا بالانتخابات الديمقراطية، فإننا لا نستطيع أن ندعى إحاطة كافية بخرائط المجتمع المصرى بتوجهاته السياسية وتركيبته الاجتماعية والثقافية. لذلك لا مفر من الاعتراف بأن اهتمامات النخب وتأثيرات وسائل الإعلام أصبحت هى التى تفرض نفسها على الجميع، وتشكل مرجعنا الحقيقى فى التعرف على ملامح تلك الخريطة. وإذا كان الحضور المعتبر للسلفيين يعد إحدى مفاجآت الانتخابات التشريعية، فإن ظهور أركان ورجال النظام السابق يشكل إحدى الملاحظات المهمة على الانتخابات الرئاسية. إذ من الواضح أن رجال النظام السابق الذين سقطوا فى اختبار الانتخابات التشريعية يحاولون أن يستعيدوا دورهم واعتبارهم فى الانتخابات الرئاسية. وربما اعتبروا تلك الانتخابات فرصتهم الأخيرة للعودة إلى الساحة. وثمة قرائن عديدة تدل على أنهم يعتبرونها مسألة حياة أو موت، إذا فشلوا فى استثمارها ولم ينفضوا، فقد غدا بديلهم الوحيد أن يخرجوا من الساحة وينفضوا. لعلنا لا نبالغ أيضًا إذا قلنا إنه باستثناء الأحزاب الإسلامية، فإن الأحزاب الأخرى العلمانية والليبرالية لم يعد لها تأثير يذكر فى الساحة السياسية. ينطبق ذلك على حزب الوفد الذى صار جزءًا من التاريخ وليس جزءًا من السياسة، أو حزب التجمع الذى لم يعد يذكر إلا من خلال استدعاء بعض قادته فى برامج التليفزيون أو ظهورهم على صفحات الصحف، أو الحزب الناصري الذى يعتمد على الحنين إلى الماضى وعلى التوجس من الإسلاميين بأكثر مما يعتمد على الكوادر الفاعلة على الأرض. وإذا كان ذلك شأن الأحزاب التى كانت موجودة قبل الثورة، وعاشت تجربة موت السياسة، فإن حداثة ميلاد الأحزاب التى تشكلت بعد الثورة تعد سببًا قويًا لمحدودية حضورها فى الشارع المصرى فى الوقت الراهن. إلا أن هذا الغياب للتيار العلماني والليبرالي على الأرض، لم يلغ وجود شخصيات منتمية إلى ذلك التيار فى المجال العام. وقد أثبتت هذه الشخصيات حضورها وتأثيرها لسببين: أحدهما انتشارها فى وسائل الإعلام المرئي والمقروء التى اصبحت الساحة الأوسع التى يمارس فيها الحضور السياسي. والثاني سوء أداء أبرز قوى التيار الإسلامي الذي أثار مخاوف البعض ودفعهم إلى الاصطفاف مع الطرف العلماني والليبرالي، ليس انحيازًا إليه ولكن توجسًا وإبعادًا عن الإسلاميين. 2 عودة المصريين إلى السياسة ظاهرة ارتبطت بسقوط النظام السابق، واختفاء لافتة مصر مبارك وانضواء الجميع تحت شعار مصر للمصريين. وقد رفعت الحملات الانتخابية من مؤشرات انغماس المصريين، ليس فقط بسبب كثافة الحملات الدعائية التى ظلت مادة يومية لوسائل الإعلام المختلفة منذ 18 شهرًا تقريبًا، ولكن أيضًا بسبب احتدام المواجهة خصوصًا بين المرشحين الإسلاميين ومرشحي النظام السابق، ومحاولة مرشحي البين بين أن يلفتوا الأنظار إليهم فى ذلك السباق. ومن العلامات الفارقة فى هذا التنافس تلك الصدمة التى أصابت المجتمع جراء إقدام بدائل مبارك على الترشح، الأمر الذى وسع كثيرًا من دائرة الخوف وأعاد إلى الأذهان كابوس سنوات المعاناة من الاستبداد والفساد. ولم يعد خافيًا على أحد أن أحداث العنف التى شهدتها مصر وكان الثوار ضحية لها، وكذلك وقائع الانفلات الأمنى التى تعددت، كانت من العوامل التى دفعت كثيرين إلى التطلع للعودة إلى الاستقرار والتعافى، خصوصًا حين أدت هذه الأحداث وتلك إلى الإضرار بمصالح الناس ومعايشهم. ولست واثقًا مما أشيع عن أن ذلك كله مرتب لإيصال الناس إلى تلك النتيجة، لكن الذى لا شك فيه أن الشعور بالقلق كان حقيقة وليس وهمًا، وأن المنسوبين إلى النظام السابق اتكأوا عليه فى دعايتهم وحاولوا إقناع الناس بأن مفاتيح الأمن والاستقرار بأيديهم، وليست فيما تنشده من ديمقراطية. وكأنهم أبرياء مما حل بالبلد من دماء وتشوهات طوال الثلاثين سنة الماضية. إذا أضفنا إلى هذه الخلفية حالة الاستقطاب التى تعمقت فى مصر بين الإسلاميين باختلاف فصائلهم من جانب، وبين العلمانيين والليبراليين من جانب آخر، فسنجد أن ذلك كان عنصرًا آخر رفع من وتيرة الاستنفار ووسع من دائرة الجدل السياسى. وكانت النتيجة أن موضوع مرشحى الرئاسة فرض نفسه على كل حوار يدور فى أى محفل. وأصبح من المألوف أن يسأل سائق التاكسى أى راكب معه عن المرشح الذى سينحاز إليه، أو أن تصبح المفاضلة بين المرشحين مادة للجدل الصاخب بين الجالسين فى أى منتدى أو مقهى. مع الاستقطاب تراجعت فرصة التوافق، وانفرط عقد الجماعة الوطنية، وتعمقت أزمة الثقة بين الجماعات والقوى المختلفة. ولم يكن غريبًا فى هذه الأجواء أن تختفى روح ميدان التحرير، حين كان الجميع حقًا يدًا واحدة، وكان المطلب الذى رددته هتافات تلك المرحلة أن يكون الثوار مع الجيش يدًا واحدة. لكن الأمور انقلبت رأسًا على عقب، فلا بقي ثوار التحرير كما كانوا، ولا نجحوا فى أن يصبحوا مع الجيش يدًا واحدة. 3 حتى التيار الإسلامى لم يعد يدًا واحدة فيما بين فصائله المختلفة. والمرشحون الثلاثة الذين التزموا بالمرجعية الإسلامية تعبير عن ذلك التشرذم. والتباين فى المواقف من المرشحين بين الإخوان من ناحية وبين السلفيين وحزب البناء والتنمية «الجماعة الإسلامية» نموذج آخر. بل إننا نجد أن ذلك التباين حاصل أيضًا فى محيط السلفيين أنفسهم. فحزب النور المعبر عن جماعة الدعوة السلفية. انحاز إلى أحد المرشحين، فى حين أن آخرين من السلفيين أيدوا مرشحًا آخر، ووجدنا أن الجانبين تبادلا التراشق اللفظى جراء ذلك التباين، الذى اتسع نطاقه ووجدنا له امتدادات أثرت سلبًا على الجسور الممتدة بين الإخوان وحزب النور. حين ظهر السلفيون إلى العلن اكتشفنا ثلاثة أمور مهمة. الأول أنهم يمثلون كتلة تصويتية معتبرة فى المجتمع المصرى ينبغى أن يعمل لها حساب فى المعادلة السياسية، الثانى أنهم ليسوا شيئًا واحدًا ولكنهم مدارس مختلفة لا يجمع بينها أى إطار تنظيمى، باستثناء الدعوة السلفية التى عمدت إلى تشكيل حزب النور. وهذا الحزب مقره فى الإسكندرية حقًا، لكن له أفرعًا فى بقية المحافظات المصرية. أما الآخرون فهم مجموعات تلتف حول بعض شيوخ السلفيين، وكل واحد له طريقته التى يمكن أن تختلف عن الآخر. الأمر الثالث أن الصورة النمطية التى جرى تعميمها إعلاميًا على السلفيين ظلمتهم كثيرًا وشوهت المعتدلين منهم والعقلاء جراء الإصرار على التركيز على المتطرفين منهم والمشوهين فكريًا. وكل من يقترب منهم يستطيع أن يتبين أن بينهم عقلاء على استعداد لتطوير أفكارهم والتفاعل مع متغيرات الواقع السياسى. وقد قيل لى إن مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بمؤسسة الأهرام نظم دورة تدريبية لأعضاء مجلس الشعب الجدد، وكان ممثلو السلفيين وحزب التنمية والبناء هم أكثر المشاركين حرصًا على الانتظام فى الدورة حتى آخر يوم فيها. لقد أدهشنى المتحدثون من حزب النور الذين سمعتهم فى أحد المؤتمرات الانتخابية، وكان رئيس الحزب الدكتور عماد عبد الغفور فى المقدمة منهم، حينما ركزوا فى خطابهم على أهمية إحلال العدل فى مصر، مستندين فى ذلك إلى الآية القرآنية التى تقول إن الله يأمر بالعدل ولم يذكر أحد منهم كلمة الشريعة، ليس إنكارًا لها بطبيعة الحال، ولكن إدراكًا منهم أن التركيز على قيمة العدل يحقق أحد مقاصد الشريعة، بل مقصدها الأكبر. وبدا ذلك نموذجًا لمنظور الخطاب ونضجه لدى عقلاء السلفيين فى نفس الوقت. 4 لا أستبعد أن ترتفع كثيرًا نسبة المشاركين فى عملية التصويت فى الانتخابات. وإن كنت استبعد ان تصل النسبة إلى «90%» كما ذكرت جريدة الأهرام. ذلك أن الحماس والاستنفار على أشده فى كل أنحاء مصر، ورغم التأكيد على ضرورة احترام النتائج أيًا كانت طالما توافرت لها ضمانات الحرية، إلا أننى لا أستطيع أن أتجاهل أن ذلك الحماس يختلط بدرجات متفاوتة من الخوف. وفيما استشعره فإن ثمة خوفًا من أن يكون الخيار فى نهاية المطاف محصورًا فى الاعادة بين من انتسب إلى عصر مبارك وجرحت ذمته السياسية، وبين أحد الإسلاميين الذين جرحت خبرتهم السياسية. وإذ أشارك الخائفين من عودة أعوان مبارك قلقهم، إلا أننى لا أعفي الإسلاميين من المسؤولية عن تخويف الناس منهم. أدري أن الإعلام لعب دورًا كبيرًا فى تعميم الخوف والمبالغة فيه، لكننى أسجل أيضًا أن سلبيات أدائهم وفرت للإعلام المتصيِّد والمخاصم زادًا مستمرًا لإشاعة ذلك الخوف. وأعنى بالإسلاميين فى هذا السياق الإخوان المسلمين بالدرجة الأولى وبعض السلفيين أو المنسوبين إليهم. وأخص بالذكر موقف الإخوان من الحكومة والرئاسة واللجنة التأسيسية للدستور، وموقف السيد حازم أبو إسماعيل وأمثاله. مازلت عند رأيي في أن مصر أجرت جراحة كبرى بإسقاط نظام مبارك، ولابد لها أن تمر بفترة نقاهة قبل أن تتعافى وتؤسس بنيانها الديمقراطي، وهذا الذي نمر به أحد أطوار مرحلة النقاهة التي لن تخلو من بطء في الحركة وتعثر في المسيرة، إلا أن ذلك لا يهم مادمنا نسير في الطريق الصحيح، الذي أحسب أننا ماضون على دربه.