استضافت فضائية النيل الأزرق الأسبوع المنصرم عبر برنامج حالة تقديم الأستاذة نسرين النمر عدداً من الناشطات في مجالات المرأة، وكانت الحلقة تحت شعار «العنف ضد المرأة» وهي حالة مقبولة بالتزامن مع اليوم العالمي للحدث ولكن ما أثارني أن جل المشاركات كن ينتمين لليسار السوداني المعروف مما جعل الحلقة «مُجنّحة» والمجُنّح في عاميتنا هو الشخص الذي لا يستطيع أن يطير بسبب عطب في جناحيه أحدهما أو كليهما. العنف ضد المرأة في السودان لا ينكره أحد ولا يزايد عليه اثنان، ولكن المبذول فيه جهد مشترك من كل الواجهات النسائية السودانية. وربما لم يدر بخلد اليسار النسوي المشارك أو من يستضفنه في القنوات السودانية أن زمن «المسكنة» النسوية والذي كانت تعتمد فيه اليساريات على ما وهبهن الله من قدرة على «الردح» قد ولى. لقد وعت المرأة السودانية وعرفت أدوارها وحقوقها ومشكلاتها وصار همها وقضاياها جزءًا من تعليمها المرتبط بدينها وبيئتها ونشأتها. وبالمناسبة نهضة المرأة السودانية الحديثة شاركت فيها كل نساء السودان بمختلف أطيافهن ومنذ الأربيعينيات من القرن الماضي... وفي مقابلة لشخصي مع الرائدة الأستاذة الجليلة نفيسة أحمد الأمين بمكتبها بالأحفاد ذكرت لي أن الأجواء لخروج المرأة السوداية من قمقم التخلُّف تهيأت نتيجة لانتشار التعليم وقدرة المرأة بعد ذلك على المتابعة ومعروف بالتاريخ أن أول رابطة نسائية سودانية كانت رابطة المثقفات السودانيات التي تقدمت بفكرتها الأستاذة فاطمة طالب إسماعيل.. وقد تبلورت فيما بعد لتعمير الاتحاد النسائي الذي ترأسته أيضاً المرحومة فاطمة طالب ولدورتين. المكاسب الكبيرة والكثيرة التي حققتها الرائدات في ذلك الوقت لم تكن بجهد اليسار وحده والاتحاد النسائي نفسه لم يؤسسه الحزب الشيوعي كما ذكرت الرائدة نفيسة أحمد الأمين ولكن حركة اليسار كانت حركة تحرر عالمي والحزب الشيوعي السوداني كان يساند قضايا المرأة فوجد فيه الاتحاد ملاذاً آمناً من هجوم رجال الدين وطغيان سلطات العادات والتقاليد.. إن كان ثمة تحية في هذا المقام فهي للرائدة ب: سعاد الفاتح البدوي لأنها كانت تحارب في ثلاث جبهات، الأولى جبهة رجال الدين الذين كانوا يحرمون على المرأة كل شيء: خروجها ومشاركتها وصوتها...إلخ. بالإضافة إلى محاربة اليسار الذي كان يستغل المنابر بصوته العالي لتمرير أجندته الحزبية المقطوعة عن الأصل بالإضافة أيضاً لمحاربة الجهل والفقر والعادات المتخلفة في ذلك الوقت.. المرأة السودانية في خروجها الأول وقف معها الرجل وساعدها في التعليم وكان الأشقاء يعودون للبيت مساء بعد يوم شاق من النضال ليجدوا الشقيقات في انتظارهم على أحرِّ من الجمر، فيقومون بتنويرهن بمآلات الوضع السياسي ويقصون عليهن ما يدور في الأضارير ويقرأون كذلك عليهن مناكفات الصحف الحزبية والمستقلة من أجل نيل الاستقلال مما خلق لأغلبهن الرغبة في ولوج ذلك العالم الساحر بأنفسهن ... والرجل السوداني ما زال حتى اليوم يعطي في هذا المجال ...وما التميز الذي نعيشه إلا بسبب وعيه بحقوقنا و وعيه كذلك باهمية ذلك بالنسبة له وبالنسبة للمجتمع والا فانظر عزيزي القارئ حولك في العالميين العربي والافريقي لترى الفرق.... العنف ضد المرأة في تقديري ليس المعنى به القوانين وحدها كما صورت تلك الحلقة ..ولكنه قضية اجتماعية شائكة تحتاج من كل الناشطين والناشطات أن يخلعوا عباءاتهم المختلفة ويجلسوا ليستفاد من طاقتهم الداخلية المهدرة في تصويبها نحو هدف واحد بدلاً عن تصويب بعضها على الحكومة القائمة... والحكومة القائمة في تقديري «تستاهل أكثر من كدة» ...لا بسبب أنها قد دست محفارًا مع العلم أن آلياتها وأدواتها في كل مكان ومع العلم كذلك أنها قامت بتأصيل ممتاز في كل القضايا الشائكة والمعقدة... ولكن بسبب أنها لا تجيد رصد إنجازاتها وعرضها بالصورة اللائقة في الوقت المناسب.. وقد استمعت للأستاذة قمر هباني في وقت سابق حينما كانت مكلفة رسمياً بملف الطفولة في السودان وتعرفت على جهودها الخارقة في قضية زواج القاصرات ولعلها كنت بصدد استصدار قانون يهم ذلك المنحى وبلغت فيه مالم تبلغه أي جهة من الجهات الأهلية. وبالمناسبة الحكومة القائمة حالياً هي الحكومة الوحيدة التي أعدمت أحد المغتصبين لطفلة ما ونجحت في المصادقة على القانون الرئاسي في شأن الاغتصاب وهو قانون جيد ساري المفعول يتهيّبه كل من تسوِّل له نفسه ارتكاب تلك الجريمة البشعة. الرجل ليس مسؤولاً رئيساً عن ذلك الملف العنف ضد المرأة وفي أحيان كثيرة يكون هو نفسه أحد ضحايا العنف ضده «الرجل»، أما انتشار حالات الطلاق فهو ليس المسؤول الأوحد عنها وقد تعود عليه بالتشرد مثلما تعود على المرأة وهذا أمر لا ينفي أن ما يقع على المرأة في حالة الطلاق يكون أقسى لأن المرأة هي الأم وهو دور بيولوجي تحكمه وظيفة طبيعية تقابلها وظيفة الاتفاق عند الرجل والأصل هو تكافؤ الأدوار وتكافلها لتكوين الأسرة وتكوين المجتمع المعافى السليم. الظروف الاقتصادية الحالية يجب أن يسأل عنها التشريعيون والتنفيذيون بهذا البلد وهي أم الكوارث إذا ما أردنا الإصلاح. يجب أن نضعها في حسباننا دون مزايدة على أصل التشريع وهو الدين الإسلامي كما حدث في الحلقة التلفزيونية آنفة الذكر ونصيحتي للأخوات اليساريات أن ينتبهن في قصة المزايدة على أصل التشريع قبل أن يسدل ستار العمر وقطاره على الأفكار والرؤى وتضطر الرفيقات لأداء فريضة الحج وما زالت بجُعبتهن الكثير من أحلام الطفولة التي لم تبلغ ولن تبلغ الحلم.