أستاذي العزيز الصدفة وحدها التي جعلتني افتح قناة النيل الأزرق في تلك الليلة ووجدتهم كالعادة في حفل غنائي إلا أنهم وخلال الفاصل قاموا بتكريم الأستاذ عيسى الحلو وأعطوه جائزة الأب المثالي وذلك لقيامه بتربية أبنائه بعد أن توفيت أمهم، تابعت هذا الموقف وقد هزّني بشدة فعيسى الحلو أستاذي وأنت أدرى بمعنى الأستاذ في زماننا الجميل، ورجعت إلى كتاباتي القديمة وأرسلت لك منها هذه.. لم تكن الخرطوم الأهلية الوسطى مجرد مدرسة بل كانت مؤسسة تعليمية متكاملة، ولم يضن عليها مؤسسوها (الشيخ مصطفى الأمين وأولاده) والقائمين عليها الأستاذ محمد حمزة وكوكبة الأساتذة (بشيء يمكن أن يكون ذا فائدة للمدرسة أو لطلابها، فبالرغم من أن (سيطان العنج) كانت ضمن ميزانية المدرسة إلا أن هذه الميزانية كانت تمول أيضًا كل أنشطة المدرسة الرياضية والثقافية والأدبية، ولم نسمع يومًا أن طلب من أي طالب أن يدفع قرشًا واحدًا لأي سبب بل إن مصاريف الدراسة تخفض للطالب كلما أحرز نتيجة مشرفة، وذلك لأن أصحاب المدرسة بنوا محلات (دكاكين) على سور المدرسة تطل داخل السوق العربي يعود ريعها كله لميزانية المدرسة... يعني كان المقصود التعليم والتعليم المتكامل ولوجه الله (قارن بمدارس اليوم الخاصة). كانت الجمعية الأدبية الأسبوعية تقام بالميكروفونات وكانت أكل أفئدة الناس تهوى إليها بما فيها المدارس الأخرى، الأميرية غرب والأميرية جنوب وكل الأساتذة وكان أساتذتنا الأجلاء، أستاذ مختار (الآن أستاذ اللغة العربية بجامعة الملك سعود)، الأستاذ عيسى الحلو متعه الله بالصحة والعافية، وأستاذي الجليل زمراوي الذي لا أعرف أين هو الآن، كان هؤلاء مع بعض الطلبة هم نجوم الجمعية وكانوا ماخدين الموضوع (جد) أذكر أن أستاذ زمراوي دخل علينا الفصل صبيحة أحد الأيام مكتئبًا وجلس صامتًا ونحن كأنما على رؤوسنا الطير وأخيرًا عرفنا أن أحد الطلبة كان قد قرأ في جمعية الليلة الفائتة قصيدة وطن النجوم وكانت قراءة مليئة بالأخطاء فلم ينم أستاذنا من الغضب!! كان أستاذ زمراوي مرشد فصلنا (أبو الفصل) فكان يعلمنا أسرار الأدب الإنجليزي صباحًا ويجوب بنا آفاق البحار مع ماجلان وكابتن كوك عند الظهيرة.. وكان فيما بينهما يعلمنا كيف نعيش، كان له أسلوبه الخاص في كل شيء، أراد يومًا أن يعين (ألفة) للفصل فقال شوفو يا أولاد المسألة ليست فتونة عشان أعين واحد ضخم الجثة ألفة ولا أتوقع منكم خروجًا على القانون إنما أريد أحدكم أن يقوم بعمل إداري بسيط، يسجل الغياب ويحضر الطباشير ويمسح السبورة وهذا الشخص ستعينونه أنتم يعني بالانتخاب! وتم ترشيح ثلاثة؛ أولاد قدام (الصغار) رشحوا واحد وكذلك الوسط واحد والجماعة الطوال القاعدين ورا نزلوا مرشحهم، وكانت فرصة نادرة جدًا للصغار أن يطلع منهم (ألفة) في تاريخ المدارس السودانية فلم يفوتو الفرصة، و.. فزت أنا في الانتخابات الفه على الفصل! حادثة صغيرة مثل هذه تريك ماذا كان يريد هؤلاء الأجلاء بنا وأي تربية ربونا وأي أمانة أدوها، إنا نشهد لهم الآن وسنشهد لهم يوم الحساب إن شاء الله.. أستاذنا عيسى الحلو كان يمثل ثنائيًا مع زمراوي في اتحافنا بكل جميل ومبتكر، وكان الحلو قد أصدر اثنين من كتبه حتى ذلك الوقت كانت تباع في كنتين المدرسة (ريش الببغاء) و(عود الكبريت) إن لم تخني الذاكرة، وكنا فخورين جدًا أن يدرسنا في هذه السن كُتاب وأساتذة أجلاء وهم أيضًا كانوا سعيدين بنا ومخلصين لنا... أذكر في إحدى حفلات نهاية العام دخل علينا أستاذ زمراوي متأبطًا ذراع عيسى الحلو وقالوا لنا يا أولاد حنختار منكم مجموعة لتقديم مسرحية في الحفل الختامي و.. كانت مأساة الحلاج.. للأستاذ صلاح عبد الصبور وكان ذلك أول عهدي بالحلاج وسره وبوحه.. في الحادية عشر من عمري.. و حفظنا المسرحية وتقمصنا الأدوار بل وعرفنا الأسرار، وما زال صوت الجوقة يرن في أذني؛ الأعلى صوتًا والأطول وضعوه في الصف الأول، ذو الصوت الخافت والمتواني وضعوه في الصف الثاني.. أما أستاذ مختار فقد عمل لنا كراسة أدب في الصف الثاني المتوسط ما زلت أفخر به إلى يومنا هذا، علمنا أن أحمد شوقي كردي وشركسي وتركي ويوناني وعربي الأصل! وحببنا في شعراء المهجر ميخائيل وإيليا وجبران... و... قال السماء كئيبة وتجهما .... قالت ابتسم يكفي التجهم في السما.. ودمتم..