هناك (مناحات) شهيرة في السودان، مثل مناحة الشيخ حسب الرسول ودبدر وهي مناحة (الكان داك) التي يغنيها الفنان خلف الله حمد، ومناحة (عمارة ود المك نمر) التي يغنيها عبد الكريم الكابلي، ومناحة الشيخ عبد الباقي أزرق طيبة (غرَّارة العبوس دار الكمال ونقاص) التي يغنيها الفنان محمد الأمين، ومناحة (حِليل موسى) من كلمات الشاعرة (فقُّوسة) وتغنيها الفنانة منى الخير، ومناحة الشهيد عبد القادر ود حبوبة (بتريد اللطام أسد الكداد الزام) وهي من كلمات أخته ويغنيها الفنان بادي محمد الطيب، وهناك أيضاً مناحة مستر جاكسون!. مناحة مستر جاكسون تحكي (مسخرة) وعجرفة الإداريين البريطانيين. حكى السياسي الراحل (كامل محجوب) في مذكراته التي حملت عنوان (تلك الأيام)، عن الإداريين الانجليز الذين كانوا بسطوتهم يفرضون على المواطنين العمل مجاناً بنظام السخرة، وذلك في منطقة مروي وكريمة. وقد تمادى أحدهم ويسمى مستر جاكسون في قهر الأهالي والتسلية بالمواطنين. كان جاكسون يتسلَّى بالضحك على المواطنين والهزء بهم. ومن ذلك طلبه ذات مرة من في عجرفة أن تقام له مناحة باعتباره قد توفي. وأقيم ذلك المأتم تلبية لطلبه، وجاءت بعض النسوة يبكينه في مناحة قائلات (سِمِع حِس النِّحاس يرزم ... ووب الليلي يا جكسم... يا جكسم قليل اللوم... يبكنك بنات أبودوم). كان مستر جاكسون يحارب التعليم، ونتيجة لسياساته كانت توجد في كل المديرية الشمالية من حلفا إلى حدود الخرطوم مدرستان فقط، إحداهما في حلفا والثانية في بربر. قال الراحل كامل محجوب (في المدرسة الاولية (مرحلة الأساس) كانوا يحتفلون كل عام بعيد جلوس الملك جورج السادس ويرددون الأناشيد في هذه المناسبة: عيد الجلوس وأيّ عيد... هذا هو العقد الفريد فليحيا جورج السادس... وليهنأ بالعيد السعيد في تلك الأيام كان النداء المفضل للمواطنين في طلب النجدة والإستغاثة (يا ميرغني عند الشدائد). وكان بعضهم يتسابقون للحصول على جرعة ماء يشربونها من ماء وضوء (السيد)، طلباً للبركة. في غمرة تلك (البركات) و(المناحات) والعمل المجاني الإجباري، أنسى جبروت مستر جاكسون الأهالي نداء الإستغاثة (يا ميرغني عند الشدائد). لكن من هو جاكسون؟ هِيربرت جاكسون ضابط عسكري بريطاني من سكوتلاندا، حارب خلال خدمته العسكرية في مصر ضمن قوات (غوردون هايلا ندرز) التي خاضت معارك (التيب) و(طماي) في شرق السودان ضد القوات السودانية (قوات الثورة المهدية بقيادة أمير الشرق الأمير عثمان دقنة). معركة (طماي) اسمها المحلي الأصلي (تمانيت). ثم انضمَّ الضابط جاكسون إلى حملة إنقاذ غردون بقيادة اللورد (ويلزلي) ضمن كوكبة خطيرة من كبار ضباط الإمبراطورية البريطانية، غير أن المجاهدين في معركة (أبو طليح) شمال المتمة بقيادة الأمير علي ود سعد هزموا الجيش الغازي، وانكسرت حملة إنقاذ غردون عسكرياً. كان انتصار (أبو طليح) مفتاحاً لسقوط غردون وتحرير الخرطوم وتحرير السودان. ثم انضمَّ جاكسون إلى الجيش المصري عام 8881م ليصبح واحداً من الآباء المؤسسين ل (السودان الإنجليزي المصري)، حيث شغل جاكسون منصب نائب (السِّردار) والحاكم العام. حيث كان جاكسون عادة ما يمثِّل الحاكم العام (ونجت باشا) والسير (لي ستاك) في غيابهما. طوال حملة استعادة استعمار السودان عسكرياً بقيادة اللورد كتشنر، كان الضابط جاكسون يقود (الفرقة السودانية الحادية عشرة) التي اشتهرت بعنفها وشراستها في القتال وعدم انضباطها في المعسكرات. كان رجال تلك الفرقة العسكرية الشرسة ينظرون إلى جاكسون باعتباره (شِبه إله)، على حدّ تعبير كُتَّابهم. في حادثة فاشودة في أرض السودان، حيث أوشكت بريطانيا وفرنسا على الصدام العسكري، كان جاكسون القائد العسكري للجانب البريطاني الذي واجه القائد الفرنسي مارشاند. واستخدم جاكسون اللغة الفرنسية التي يتحدثها بسبب تلقيه جزء من تعليمه في فرنسا في التخاطب مع مارشاند، مما نتج عنه تخفيف حدّة المواجهة بين البلدين وحلّ المشكلة ديبلوماسياً. وعندما تمّت ترقية جاكسون ليصبح حاكم بربر عام 1900م، حلّ مُشكلة تمرُّد فرقته العسكرية بالتفاوض مع زوجات العساكر المتمردين. ويقال إن جاكسون عندما كان حاكماً ل (دنقلا) لمدة عشرين عاماً، تزوَّج عدة زوجات سودانيات، حيث أقام نصباً تذكارياً لإحدى زوجاته. وعندما تقاعد جاكسون عن الخدمة تفرَّغ للزراعة في مزرعته بالقرب من مروي، حيث توفي بمدينة مروي عام 1930م. يشار إلى أن جاكسون ولِد عام 1861م. هناك أيضاً اثنان من (الجكاسنة) المشهورين من البريطانيين الذين عملوا في السودان، هما الكولونيل جاكسون وه.سي. جاكسون الذي كتب عدة كتب عن السودان. الخرطوم الحرَّة اليوم بعد (67) عاماً من الإستقلال لا تزال تحمل اسم (ميدان جاكسون)، كما لا تزال تحمل اسم (كوبر)!. أليس أكثر احتراماً لولاية الخرطوم تسمية ميادينها وشوارعها ومناطقها بأسماء أبطال وأفذاذ وكرام السودانيين؟.