أصاب المفكر المتعمق الدكتور صبري محمد خليل، أستاذ فلسفة القيم الإسلامية، بجامعة الخرطوم، في كثير من نواحي تناوله النقدي لأطروحة الفكر الجمهوري، التي سيحتفل أتباعه ومناصروهم ومشجعوهم من العلمانيين، بعد أيام، بمهلك من بشر به. وسيسمعونا الكثير من المناحات البكائيات الطنانة في رثاء ما صار إليه، وقل أن يبصِّروا أحدا بشيئ من موضوعات الفكر الذي يبكون زعيمه، بلْه أن يستهدفوه بتناول نقدي تقويمي جاد. وقد نظرنا في أطروحة الدكتور خليل التي منحها عنوان «قراءة نقدية للفكر الجمهوري» نظرا نقديا، نرجو أن يكون موضوعيا، أو أن يكون عادلاً إن لم يكن موضوعياً. ورأينا البروفيسور خليل قد أصاب كبد الحقيقة، في وصف الفكر الجمهوري، عندما أدرجه في سياق الفلسفة الصوفية لا الفكر الاجتماعي. فهو إذن فكر فلسفي مثالي يهتم بقضايا الوجود العليا «أونتولوجي» بخلاف ما يشتهر به الدعاة الجمهوريون اليوم من أنهم دعاة فكر اجتماعي سياسي يكثرون من التهريج والضجيج! ولم يفسر لنا الدكتور في سياق نقده الرفيق للفكر الجمهوري، لماذا انصرف أتباعه منذ مقتل محمود، بل قبيل ذلك بحين، بالكلية إلى مجالات السياسة «فكراً وممارسة»، وصرفوا أنظارهم عن التركيز على جوهر الفلسفة الجمهورية «الأونتولوجية»، وتتبع مسارها الأصيل، من حيث أنها فلسفة روحية غنوصية؟! وقد أحسن البروفيسور خليل حين بدأ تناوله للفكر الجمهوري البداية الأصح، حيث وقف على أصوله الأولى ممثلة في مبادئ عقيدة وحدة الوجود. فذكر أن الكثير من نصوص الفكر الجمهوري تؤكد انطلاقها: «من مفهوم وحدة الوجود، القائم على أن للخالق وحده وجوداً حقيقياً، أما المخلوقات فوجودها وهمي، والذي يترتب عليه وحدة الخالق والمخلوق». وجاء الدكتور بشاهد من أقوال صاحب الفكر الجمهوري في كتاب «الرسالة الثانية من الإسلام، ص90 »، يقول: «ويومئذ لا يكون العبد مسيَّراً، إنما هو مخيَّر قد أطاع الله حتى أطاعه الله معارضة لفعله، فيكون حياً حياة الله، وقادراً قدرة الله، ومريداً إرادة الله ويكون الله». وبشاهد آخر من النصوص الفظيعة التي تجاسر بها محمود في كتاب «أدب السالك في طريق محمد، ص8» حيث يقول: « فالله تعالى إنما يعرف بخلقه، وخلقه ليسوا غيره، وإنما هم هو في تنزل، هم فعله ليس غيره، وقمة الخلق وأكملهم في الولاية هو الله وهو الإنسان الكامل وهو صاحب مقام الاسم الأعظم «الله»، فالله اسم علم على الإنسان الكامل». وإذن فأول القصيدة كفر كما يقولون. وتعالى الله علواً كبيراً عما افترى محمود. وقد أصاب الدكتور خليل حين عرض مزاعم محمود على أصول الفكر الإسلامي الصحيح للعلاقة بين الخالق ومخلوقيه، فقال: « إن مضمون مفهوم العلاقة بين الوجود الإلهي والوجود الكوني الطبيعي، التنزيه، وأن وجوده تعالى غير محدود بالحركة خلال الزمان، أو الوجود في المكان، ولا تتوافر للإنسان إمكانية إدراكه بحواسه وعقله، وبالتالي يترتب عليه عدم جواز الخلط والدمج بين الوجودين الإلهي والطبيعي». واستشهد البروفيسور خليل لتعزيز رأيه بقول للإمام الإسلام وحجته أبي حامد الغزالي، وقول لقاهر الفرق الضالة الإمام عبد القاهر البغدادي، رضي الله تعالى عنهما. وفي الحقيقة فما كان الدكتور في حاجة إلى ذلك، لأن هذا هو اعتقاد جمهور المسلمين أجمعين عوامهم وأئمتهم على السواء! وبعد أن قرر الكاتب الفاضل ما قرر التفت إلى وجهة في النظر الاعتذاري العاطف، حاولت ان تنأى بالفكر الجمهوري عما قرره لهم من القول بوحدة الوجود. وقد حاول المتعاطفون مع الفكر الجمهوري أن يعتذروا له بتأويل عقيدته، في وحدة الوجود، بحيث يحتملها الذوق الإسلامي. وهو اعتذار ينتهي بهذه العقيدة إلى أن تصبح: «فلسفة روحية، يمكن اعتبارها صيغة معدلة لمفهوم وحده الوجود، لا ترتب على الإقرار بالوجود الإلهي والروحي، (و) نفى الوجود المادي «كلياً»، كما في مفهوم وحدة الوجود في صيغته الأجنبية». وانتقد الدكتور هؤلاء المتدخلين لإسعاف الفكر الجمهوري وإخراجه من مطب الشرك الغليظ قائلاً: «إن تأويلهم هذا لا يجدي شيئاً». لأنه يفضي هو الآخر إلى شكل آخر من أشكال عقيدة وحدة الوجود. وهي عقيدة لها تجليات شتى، وتصاغ بحسب مزاجات وأوهام القائلين بها. يعرف ذلك جيداً من درسوا الفلسفة الإسلامية دراسة نظامية واسعة، أو من أسعدهم الحظ بقراءة كتاب «التصوف الإسلامي» للدكتور زكي مبارك، حيث قدم فيه مرجعاً من أوفى وأصفى وأبهى الدراسات التحليلية المقارنة لعقيدة وحدة الوجود. وقد أفاض الدكتور خليل في نقده لهذا التدخل، الإسعافي، المتطفل، لإنقاذ الجمهوريين من لوثة الشرك، فأفاد وأجاد وعن الحق ما حاد. وذلك حين قال: «إن كلتا الصيغتين القديمة والمطورة (وراثياً) من عقيدة الحزب الجمهوري في وحدة الوجود:«لا تعبران عن التصور الإسلامي، الذى يتجاوز كل من مذهبي الوحدة «وحدة الوجود بصيغه المختلفة»، والتعدد «تعدد الآلهة»، إلى مذهب قائم على الجمع بين الوحدة والتعدد. كما هو ماثل في مفهوم التوحيد الذى يقول بوحدة الخالق وتعدد المخلوقات، وأن لكل من الخالق والمخلوق وجوداً حقيقياً. لكن وجود الأول مطلق، ووجود الثاني محدود. كما أنه لا يرتب على الإقرار بالوجود الإلهي والروحي، إنكار الوجود المادي «جزئياً أو كلياً»، وبالتالي ينظر إلى الإنسان كوحدة نوعية من الروح و المادة، ويوازن بين حاجات الإنسان الروحية والمادية. قال الله تعالى: «وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ». القصص:77 وأبان الدكتور خليل عن مركزية عقيدة وحدة الوجود في الفكر الجمهوري، حين ربطه بعقيدة سقوط التكاليف لديهم. وهي العقيدة الفرعية الناتجة عن ذلك الأصل. فحين يمتزج الإنسان بالإله تسقط عنه التكاليف كما يزعمون. وفي هذا قال محمود محمد طه في «كتاب الصلاة، ص 70»:« إن للصلاة المعنى قريب: هي الصلاة الشرعية ذات الحركات المعروفة، ومعنى بعيد: هي الصلة مع الله بلا واسطة، وهي صلاة الأصالة»، التي لا يعرفها ولا يؤديها أحد في الوجود سواه! وقد شهدت تلاميذه ذات عشاء يصلون قرب داره بالثورة، وهو لا يصلي معهم، لأن له صلاة غير صلاة التلاميذ، وغير الصلاة التي يؤديها سائر المسلمين، وصلاته الخاصة به إنما هي صلاة الأصالة التي يدعيها! وقد أحسن الدكتور خليل حين عقب على هذا المبحث الخطير، من مباحث أطروحته القوية، قائلاً: «إن القول بسقوط التكاليف هو من لوازم مفهوم وحدة الوجود، لكنه يتناقض مع أصول الدين الإسلامي الحنيف». وبعد، فقد كان هذا عرضاً لجزء من المباحث القيمة التي توفر عليها هذا الدكتور، المفكر، الناشط، الذي نطالع له كثيراً، فنختلف معه كثيراً، ونتفق معه قليلاً، ولكنا نحمد له دوماً جده وجهده واجتهاده.