من حيث المبدأ، قد لا يختلف ضدان على حق الشعوب في التغيير.. ولا ضير أن ظل الاختلاف قائماً تجاه الوسائل والطرائق والأدوات التي تجعل من هذا الحق واقعاً معاشاً، وانطلاقاً من المشترك أنف الذكر، فلا عجب إن استحوذت ثورات الربيع العربي بوجه عام على وجدان الشعوب، لجهة مشروعية المطالب، ومنطقية الأسباب التي أدلت لتفجرها ومن ضمنها: الركود الاقتصادي وسوء الأوضاع المعيشية وانتشار الفساد والتضييق السياسي. أما الطرائق التي اُتبعت للتعبير عن حق الشعوب في التغيير سنة الله في الأرض فكانت محل جدل ... خاصة تجاه تلك التي انحرفت عن مسارها السلمي نحو الانتفاضة المحمية بالسلاح. وعلى الرغم من أن منطق المؤيدين لهذا الانحراف كان مرده إلى التصدي لآلة القمع البوليسية وبطش الأنظمة الحاكمة، إلا أن عواقب هذا التطور في الأدوات كان ولا يزال يدحض هذا المنطق. وبالقفز إلى النتائج: نجد أن ثورات الربيع العربي بمسالكها المختلفة انتهت للتغيير المنشود من حيث الشكل، ومازال أمامها الكثير للوصول للتغيير المثالي، وذلك يعود للمناخ الذي سبق هذه الثورات، إذ لم تُمَّكن مساحة الحريات المتاحة للتنظيمات السياسية الثائرة ضد أنظمتها من ترتيب بيتها الداخلي بشكل يستوعب انتقالها من أحزاب معارضة إلى أحزاب حاكمة، كما أن الخلفية الإسلامية لتلك التنظيمات ساهمت بشكل هائل في تحريك المجتمع الدولي الرافض لمنهج الحكم الإسلامي نحو إجهاض ثمرة هذا الربيع، والشيء المهم الأخير هو عدم موت الأنظمة البائدة، بل ومساعيها المستميتة لاستعادة السلطة مهما كلفها ذلك، الأمر الذي انعكس سلباً على عدم تطور التجربة الديمقراطية في دول الربيع العربي. وإن كانت ثم خلاصة، فليس سوى الإشارة للصعوبات الجمة التي تجابه حكومات دول الربيع العربي ... فحزب النهضة الإسلامي التونسي على الرغم من الائتلاف القائم بينه وبين حزبين علمانيين إلا أنه يجابه صعاب التوفيق بين الحرية ومتطلبات الحزب، كما أن الإخوان المسلمين في مصر وبعد نجاح مرحلة إعادة تشكيل الدولة المصرية تحاصرهم فرقعات العلمانيين وأذناب النظام البائد الإعلامية الساعية لدمغ الإخوان بأنهم تلبسوا بحجاب الثورة وبحجاب تحرير الشعب المصري من نظام مبارك، لكن سرعان ما تحولوا إلى نظام مبارك جديد، وأصبح مرسي ديكتاتوراً بلباس المدنية، كما حاولوا اتهامهم بالسيطرة على مفاصل الدولة المصرية لولا استيقاظ الشعب المصري والقوة السياسية الليبرالية من نشوة الانتصار على نظام مبارك، أما في ليبيا التي اختارت البندقية وسيلة للتغيير، فلم يختلف الحال كثيراً، إذ ظل يروج العروبيون وأنصار النظام القديم إلى أن الثورة الناجحة هي التي تنتهي إلى بناء شرعية جديدة أساسها المتين هو الشرعية الدستورية، والثورة الفاشلة هي التي تتمترس خلف «الشرعية الثورية»، وتعمل على تحويل الحالة الطارئة والظرفية إلى حالة دائمة، وعبر ذلك وبسببه تتحول إلى نظام مُستبد يعيد تأسيس النظام الذي قامت ضده.. وهذه الحالة تفسرها الضغوط والحصار اللذان تتعرض لهما الحركات الإسلامية بدول الربيع العربي من قبل العلمانيين والعروبيين وأذناب الأنظمة البائدة، وبمباركة ودعم من دول الغرب. وأن تستفيد الحركة الإسلامية السودانية المعارضة «المؤتمر الشعبي»، والأحزاب الإسلامية المعارضة «الأُمة والاتحادي وغيرهما» من التجربة، فهذا يعني إعادة قراءة تحالفاتها السياسية مع قوى اليسار والعروبيين، وذلك لأن محاولات إسقاط النظام القائم وفقاً للطريق الذي رسمه تحالف اليسار وبسند غربي، من شأنه أن يعطي اليسار والعروبيين الشرعية التي تمكنهم من الانقلاب على حلفائهم في أول منعطف مظلم، تماماً كما يحدث الآن للحركات الإسلامية بدول الربيع العربي.