كتب احمد ابن الثلاثين ربيعًا الى والدته ذات السبعين عامًا يدعوها عبر كلمات مبسطة وذات معنى وقضية يقول لها في خطابه.. «الوالدة العزيزة كيف حالك وصحتك كم انا اشتاق اليك ولعطفك وحنانك وشوقي اليك يغمرني ويهز مشاعري.. والدتي العزيزة منذ ان ارتحلت من دياركم وامتطيت الغربة سبيلاً لإسعادك وتوفير كل ما تحتاجين إليه في هذه الدنيا ولم تكن فكرة الهجرة التي ركبت مغامرتها سوى انت فكنت وما زلت في خاطري. والدتي العزيزة.. لم اكن اتخيل ان الغربة بذات العذاب والحرمان والهجر كنت احمل الاماني والرجاءات والطموحات الممتدة افقي بلا سقوفات ولكني تجرعت كاسات من الذل والهوان والتنازلات في عاداتي وتقاليدي وحتى قيمي السمحة التي كنت استمتع بها بينكم ضاعت مني بعد ان ابتلعتها المهاجر.. عزيزتي انا الآن أحتاج لدعواتكم لي بالتوفيق بان تتزلزل من سكّتي كل المشاق والمتاعب.. وحدي هنا اقارع الخطوب فالأحلام الكبيرة تلاشت وارجو ان تبلغي اخوتي بأني هنا في الغربة اصبحت بلا طموحات فحتى العمل الذي كنت اعتمد عليه في تغطية مصروفاتي المحدودة بت الآن على وشك ان يتخلى عني هذا العمل هكذا أخرني الزملاء الذين اعمل معهم.. وبعد اقل من شهر حدثت الكارثة لأحمد..اغلقت الشركة ابوابها واعلنت افلاسها وسرّحت كل العاملين فيها وبلا حقوق وباتوا هائمين في طرقات المدينة «المنحوسة» يبحثون عن بدائل اخرى اتجهوا الى سفاراتهم في ذلك البلد ولكن السفارة ذاتها لا حول لها ولا قوة طمأنتهم بأنها ستقوم باللازم وتتصل بكل الجهات المعنية ولم يكن احمد يدري ان كل هذه التعهدات اسلوب خاص في الفكر النظري لا قيمة له في دنيا العمل والتطبيق.. واحمد الذي دفع مهر الغربة بأغلى ما تمتلكه والدته «دهيبات العمر» وغنيمات الاسرة وبقايا حصاد «الحواشة» من محصولات القمح والفول وغيرها اصبحت جميعها في غير يد الاسرة بعد ان قبض احمد عائداتها ليكمل بها ترتيبات الهجرة ويغادر بعدها الى احلامه الجديدة تاركًا خلفه اشلاء اسرة وآمالاًَ منتظرة.. عشرة اعوام قضاها احمد في مهجره انتهت بحالة اللاعمل واللاعودة فكم من الاسر السودانية فقدت امثال احمد ولكنها تنتظر فطال انتظارها وهي لا تدري ان الغربة ابتلعت ضحاياها وفرضت سلطانها.. انقطع التواصل بين احمد واسرته لسنوات عديدة لانه فقد حتى قيمة الاتصال مع اسرته في السودان.. وفي احد الصباحات استيقظت والدة احمد من نومها على طرقات خجولة ادركت الوالدة ان الذي بالباب هو قادم استثنائي.. هرولت ناحية الباب.. ذلك الباب الذي شهد لحظات وداع احمد تفاجأ الوالدة ان الذي امامها ابنها احمد .. فسالت بحور من الدموع بكت الوالدة شوقًا لابنها وبكى احمد بدموع الأسى حزنًا على حظه العاثر.