إن قراءة منشورات المهدي هي واحدة من القراءات الرائعة الممتعة بحق وحقيق. فهي تنقل قارئها إلى روح تلك الحقبة المثيرة من تاريخ الوطن الحبيب. وتزوده بمعلومات كثيرة حية نابضة من قلب التجارب والأحداث. وتعد منشورات المهدية من ضمن المصادر الأولية التأسيسية لتاريخ الثورة المهدية. وتتعين قراءتها لكل من يريد أن ينجز بحثًا أصيلاً في موضوع الدعوة المهدية وتاريخ السودان الحديث. وقد أحسن العلامة البروفسور أبو سليم، إذ أخرجها في طبعة عصرية ميسرة، فشجع مثقفي السودان، وطلاب علم التاريخ، على تدبر الوثيقة الأولى للثورة المهدية. ولست أدري لم تأخر اطلاعي على تلك الوثائق، وقد كان الأحرى أن أطلع عليها منذ بواكير عهد الشباب. وعلى كل فهذه دعوة لطلاب العلم الشرعي والعصري، لتجنب خطئي وتقصيري، وهي دعوة حارة لقراءة تلك المنشورات، لكن بروح عصرية حرة وثابة، لا أثر فيها للنزعة التبعية الطائفية الرجعية. فتراث المهدي ينبغي أن يُنظر إليه باعتباره جزءًا من التراث الفكري الإسلامي السوداني. وينبغي أن ينظر إلى شخص الإمام المهدي على أنه بشر، مثل سائر البشر، يخطئ ويصيب، فلا عصمة له، ولا نبوة، ولا مهدية. ولا أظن أكثر أتباعه العصريين يدّعون له أيًا من هذه الصفات. أحسن الصادق المهدي وقد أحسن الصادق المهدي إذ ذكر في ختام كتابه «يسألونك عن المهدية» أن جده بشر يخطيء ويصيب، مثله مثل البشر أجمعين، وأنه ليس فوق الملاحظة والنقد. ومن جانبنا فلم يكن من قصدنا، ونحن نطالع منشورات المهدي، ونقبس منها، أن نرشق سهام النقد الهدام تجاههها، رغم أن فيها ما يستحق النقد. لأننا نظرنا إليها باعتبارها من بعض التراث الروحي والفكري السوداني العظيم، الذي لا نحب أن نهدمه أو ننتقصه. وإنما نقصد الالتزام في قراءته، بشروط القراءة العقلانية، التحليلية، المقارنة، التي تعين على استخلاص دروس نافعة منه للحاضر وللمستقبل. لماذا لا يجوز إهدار منشورات المهدية؟! وربما مال بعض أتباع المذاهب السنية السلفية المتشددة، لكي يدحضوا منشورات المهدية، ويهدروا قيمتها، من أول نظرة يُلقونها إليها. كشأنهم في التسرع في إبطال كل ما يعجبهم من المأثورات العلمية والشعبية. ولكن التريث في قراءة هذه المنشورات متطلب فكري مهم من أجل التبصر في تاريخ الدعوة الإسلامية، مثل ما هو مهم من أجل التبصر في تاريخ السودان وحاضره. فقد أدت منشورات المهدي وإنذاراته، في ظرفها التاريخي، إلى أكبر خضة ثورية شهدها التاريخ السوداني التليد والطارف منه على السواء.وأدت إلى تحولات كبرى في أوضاع البلاد المذهبية والسياسية. ثم أصبحت بعد خمود الثورة جزءًا حيًا من الثقافة السودانية، وموجهًا قويا لسلوك قطاعات كبيرة من الشعب. ماذا تستفيد الحركات الإسلامية من تراث الدعوة المهدية؟! وتستفيد الحركات الإسلامية، واسعة الأفق، من الاطلاع النقدي الواعي على منشورات المهدية. إذ تتمكن عبر ذلك من تقدير الأثر الروحي في التعبئة الشعبية. فلا تنشأ الثورات بمجرد تعقيد الخطاب العقلي الإيديولوجي وتكثيف الشعارات السياسية. وإنما بإشعاعات البواعث الروحية الغلابة، من قبيل ما بثه الإمام المهدي في أنحاء البلاد. وهي الإشعاعات التي تعدت حدود السودان، فبلغت أقصى غرب إفريقيا كما بلغت شرقًا إلى مسلمي الهند الذين وفد بعضهم للمشاركة في الجهاد. وعلى الحركات الإسلامية التي تعتني بدراسة تراث المهدي، أن تقوم بعد تقديرها للأثر الروحي الإيجابي المثالي للمنشورات، بمضاهاة مثاليات الثورة المهدية بما طرأ عليها من الممارسات التاريخية. بدءًا بعهد الخليفة عبد الله التعايشي، الذي ضمرت فيه الإنجازات، واتسعت فيه الانحرافات، وتوالت السلبيات. وجلب الكثير من المظالم والجنايات في حق بعض أبرز قادة الثورة، وجندها، وعموم أهل البلاد. ومرورًا بعهد المهدية الثانية، الذي ابتدره عبد الرحمن المهدي، في عشرينيات القرن الماضي، وما اقترن به ذلك العهد من السخرة في علاقات العمل الاقتصادي المحلي من جانب، ومن تمتين العلاقات بالاستعمار البريطاني من جانب آخر. ثم قيام حزب الأمة في أربعينيات القرن الماضي، وتوليه الحكم لعدة مرات، وإخفاقه عبر تاريخه الطويل، في استلهام الروح الأصيلة للدعوة المهدية. كيف تحولت النزعة الثورية إلى طائفية؟! وتساعد القراءة العصرية النقدية لمنشورات المهدية، في تحليل هذه الظاهرة العجيبة، المتمثلة في تحول تلك الدعوة الشعبية الثورية العظمى، التي بعثتها «منشورات المهدية» إلى حركة طائفية ثقيلة ذات رسوم وطقوس؟! وقد تساعد القراءة الحرة لمنشورات المهدية في الإجابة عن سؤال مهم، عن كيفية تحول ذلك البناء الاجتماعي الثوري الحر الذي قام على المساواة، إلى تكوين طبقي من سادة ومسودين؟! وكيف طغت على مبادئ الدعوة المهدية المفاهيم العلمانية السياسية، التي أدت إلى تقليص أثر الروح الدافع وأثر الدين الحافز؟! وكل سؤال من هذه الأسئلة الثلاثة يشكل مبحثًا تحليليًا علميًا مهمًا، يفيد إنجازه أصحاب حركات الصحوة الإسلامية الحديثة. وربما أسعفت الإجابة المتعمقة عن هذه الأسئلة الحرجة، الحركات الإسلامية الحديثة وحمتها من تكرار الدرس، في الانطواء الطائفي، والاستحالة إلى دعوات مغلقة، يتبخر من أجوائها الأثر الديني الروحي، وتُطبق عليها العلمانية، لاسيما في هذا العصر، عصر العولمة المطبق. وبالطبع فإن قوانين التحول الاجتماعي تنطبق على الجميع بمن فيهم التقليديون والحداثيون! فالحركات الإسلامية المعاصرة، مهما تغنت بالحداثة، لا عاصم لها من هذا المصير المحدق، الذي رأينا ملامح منفرة منه عند الترابيين.