خلال اجتماع اللجنة السياسيَّة للدستور المنوط بها، بين مهام أخرى، الاتصال بالأحزاب والقوى السياسيَّة التي قاطعت اجتماع الهيئة العُليا للدستور التي دعا إليها السيد رئيس الجمهورية والتي تُعتبر بمثابة الجمعيَّة العموميَّة التي ترجع إليها اللجان الأخرى بما فيها مفوضيَّة الدستور واللجنة السياسيَّة.. أقول خلال اجتماع اللجنة السياسيَّة تحدَّث معظم أعضاء تلك اللجنة عن ضرورة تهيئة المُناخ السياسي والاستجابة لبعض مطلوبات القوى المقاطعة حتى تقتنع بالانخراط في فعاليات إعداد الدستور الذي أجمع الجميع على أهمية أن يحظى بتوافق وطني، وكلَّما كان معبِّراً عن معظم القوى السياسيَّة كان ذلك أضمن لنجاحه في حشد أكبر تأييد سياسي خلفه يُفضي إلى مزيد من الاستقرار السياسي ويُنهي الاحتراب ويحقِّق السلام. بدأت اللجنة السياسيَّة واللجنة الفرعيَّة المنبثقة عنها بقوة وأقولها بصدق إنه كلما كانت استجابة الحكومة لتوصيات اللجنة السياسيَّة حول تهيئة المُناخ أكبر تمكَّنت من إنجاز مهمَّتها بشكل أفضل ونجحت في استقطاب القوى المقاطعة لإعداد الدستور. أحسب أن نجاح اللجنة في مهمتها سيكون مردودُه أكبر من مجرد الالتفاف حول الدستور بمعنى أنه سيؤدي إلى انفراج سياسي حقيقي يمنع الاستقطاب الحادّ الذي يستغلُّه أعداء السودان في زعزعة أمنه واستقراره، ومن شأنه أن يعزل حاملي السلاح الذين يتفقون مع مقاطعي الدستور على عدم مواءمة المناخ السياسي بسبب التضييق الحاصل على الحريات، وبالرغم من ذلك لا توجد مقارنة البتَّة بين مطلوبات حاملي السلاح المنضوين فيما يسمَّى بالجبهة الثوريَّة وبين بعض القوى الأخرى التي لا ترغب في أكثر من إتاحة الفرصة لها لكي تتواصل مع جماهيرها ومع الشعب السوداني في مُناخ ديمقراطي حقيقي مع مطلوبات أخرى ثانويَّة ليست عصيَّة على من يقدِّر تأثيرها الإيجابي على الأوضاع السياسيَّة في البلاد. إن المؤتمر الوطني يدفع القوى والأحزاب السياسية التي لا تطلب أكثر من تهيئة المناخ الديمقراطي.. يدفعها دفعاً للاصطفاف مع حَمَلَة السلاح وهو وربِّ الكعبة يمثل قِصَر نظر سياسي يخوضُ به المؤتمر الوطني الحرب ضد نفسه وضد البلاد التي ينبغي أن يكون الأكثر حرصاً على أمنها واستقرارها حتى ينعم هو بحكم مستقرّ لا تهدِّده الثورات والمشاحنات التي تخيِّم على المشهد السياسي في الوقت الحاضر. أعجبُ أن يتجاهل المؤتمر الوطني أجندة الحركة الشعبيَّة وعملائها في قطاع الشمال والحركات الدارفوريَّة العنصريَّة المتحالفة مع دولة جنوب السودان بغرض (تحرير السودان) وإقامة مشروعها المعادي لهُوِيَّة السودان الحالي بل واقتلاعها من جذورها وإقامة سودان غريب الوجه واليد واللسان هو المسمَّى عندهم بالسودان الجديد الذي (بشَّر) به قرنق من قديم!! أعجبُ أن يتجاهل المؤتمر الوطني أن ما يجمع كثيراً من القوى السياسيَّة بالحركة الشعبيَّة بأجندتها الاستئصالية هو الحكمة التي تقول: (إن المصائب يجمعن المصابينا)، فكلُّهم معارضون ولكن شتّان بين ما يجمع الحركة الشعبيَّة والأحزاب والقوى السياسيَّة الوطنيَّة التي ستكون المتضرِّر الأكبر والمعارض الأكبر لأجندة الحركة الشعبيَّة لو استطاع المؤتمر الوطني أن يتنازل قليلاً من (كبريائه) الزائف ليقرِّبَها إليه وليحشدَها معه في مواجهة الحركة الشعبية ومشروعها الاستعماري العُنصري وحُلفائها من حركات دارفور المتمرِّدة. قبل الانفصال وتقرير المصير سألتُ السيد الصادق المهدي في لقاء جمعني به في منزله: أيهما أقرب إليك المؤتمر الوطني أم الحركة الشعبية؟ فقال الرجل مجيباً: (الحركة أقرب إلينا سياسياً بينما المؤتمر الوطني أقرب إلينا ثقافياً) وكان المهدي يومها جزءاً من قوى إجماع جوبا... بالطبع استنكرتُ إجابته وقلتُ له: وهل تُبنى التحالفات السياسيَّة إلا على المبادئ والمرجعيَّة الثقافيَّة وهل تحالف الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مع عمِّه أبي لهب أم كان أعدى أعدائه؟! هذا رأي منبر السلام العادل.. تقديم المبادئ على المصالح والاعتبارات السياسيَّة وذلك ما جعلنا ولا نزال نعتبر الحركة الشعبية العدو الأول سيَّما وأنَّها لم تُخفِ توجُّهها العلماني الاستعماري التوسُّعي الاحتلالي الاستئصالي، لكن في ذات الوقت فإن المؤتمر الوطني يدفع الأحزاب الوطنيَّة دفعاً للتصالح مع العدو الإستراتيجي لتحقيق مطلوباتها المتواضعة حتى ولو كان تصالحها معه يحقِّقُ له كثيراً من أجندته ويمنحُه الغطاء السياسي داخل السودان الذي يسعى إلى الفتك به وإخضاعه إلى هُوِيَّة أخرى بل إلى بلدٍ آخر هو اليوم دولة جنوب السودان. إذن فإن المؤتمر الوطني يرفض أن يتعلَّم من تجارب الربيع العربي ويُصِرُّ على مصادرة الحرِّيات وفي نفس الوقت يطلب من القوى والأحزاب السياسيَّة أن تشترك معه في صناعة الدستور بالرغم من أنَّه يعلم أنَّ الدستور الحالي نفسَه يتعرَّض للانتهاك خاصَّة فيما يتعلق بالحُرِّيات. أقولُها بصدق إننا في منبر السلام العادل نجد حرجاً كبيراً في أن نشارك في صناعة الدستور بالرغم من المُناخ غير المواتي وقد نضطر شأن القوى المقاطعة الأخرى إلى الانسحاب ولكنَّنا شاركنا ولا نزال أملاً في أن نلعب دوراً من داخل اللجان في تهيئة المناخ من خلال إقناع المؤتمر الوطني وحكومته بالاستجابة لبعض مطلوبات القوى الوطنيَّة وذلك بغرض إشراك تلك القوى والأحزاب في صناعة الدستور وإبعادِها عن عدوِّنا الإستراتيجي المتمثل في الحركة الشعبيَّة وحلفائها المنضوين فيما يسمَّى بالجبهة الثوريَّة التي يقودُها الرويبضة عرمان ومن ورائه باقان ودولة جنوب السودان ومن يقفون خلفها من القوى المعادية للسودان. أسألُكم بالله كيف نخوضُ الانتخابات ونحن محرومون من التواصل مع الجماهير؟! كيف ننازل الحزب الحاكم وهو يحرمنا من أبسط حقوقنا السياسيَّة وينفرد بالإعلام الجماهيري والساحات ويكسر أقلام كُتَّابنا؟! كيف يدعو الأحزاب السياسيَّة المقاطعة للمشاركة في وضع الدستور وهو يصادر الحرِّيّات استعداداً لاكتساح الانتخابات بنسبة (99)% على غرار الانتخابات المصرية والتونسية قبل ثورة الربيع العربي.؟!