يحتفل كثيرٌ من الناس في الأيام القادمة بما عُرِف بالمولد النبوي، وتتنوع مظاهر هذه الاحتفالات، وتنصب الأعلام والرايات في كثير من الميادين والساحات في كثير من البلدان، وتُنشد القصائد والمدائح، ويحصل من الأمور الكثيرة المعروفة لدى الصغار قبل الكبار، ومن باب قوله عليه الصلاة والسلام: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» رواه البخاري فإن لي بعض الوقفات التي أضعها بين يدي إخوتي وأخواتي القراء، سائلاً الله تعالى أن ينفع بها، وقبل ذلك فإني أنبه إلى أن قضية «المولد» هي واحدة من القضايا «القديمة» التي نوقشت في كتب وبحوث ونُشرت فيها ردود منذ قرون عديدة بين من يرون بدعية الاحتفال بالمولد من علماء أهل السنة والجماعة وبين كثير من الصوفية الذين يحتفلون به، والردود و«النقاش العلمي» بتبادل الحجج أياً كانت هو ما يجب تأكيده، وإن «المناقشة الموضوعية» في ذلك هي «الغاية» التي ينبغي التركيز والاستمرار عليها، لأننا نعيش منذ العام الماضي وسط تصرفات ومجموعة من التصريحات هنا وهناك اتجهت إلى «الوسيلة» وصارت هي الأصل!! والوسيلة هي «المشاركة في المولد» بين جماعة أنصار السنة المحمدية والصوفية، حتى بات كثير مما يكتب في هذا الأمر في هذا الجانب فقط وهو «الوسيلة» التي يبين من خلالها جماعة أنصار السنة حكم الاحتفال بالمولد وما يجري فيه، والصوفية يحيونه بها، فحصل انصراف عن التركيز على «المناقشة العلمية» لأصل الاحتفال بالمولد وحكمه في كثير مما يُنشر في هذه المدة، ومن المؤكد أن طرفاً ثالثاً يسعى لإثارة الفتنة وإخراج الأمر مما عهد عليه في كل عام ومنذ زمن بعيد إلى أمور أخرى يحقِّق من خلالها مكاسب له، وسوف أعلق على هذه الجزئية بتفصيل في نهاية الحلقة القادمة إن شاء الله: الوقفة الأولى: إن من المعلوم أن من يحتفل بمولد النبي صلى الله عليه وسلم يدفعه إلى ذلك محبته للنبي صلى الله عليه وسلم، ورغبته في إظهارهذه المحبة، ولا يخفى أن محبته عليه الصلاة والسلام من الواجبات العظيمة في الدين، ولما كانت محبته تستلزم اتباعه وطاعته والتأسي به، كان لزاماً على كل من يحتفل بالمولد النبوي أن يتأكد ويتحرَّى من أن هذا الاحتفال بالمولد لا يُوقعه في مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم وبالتالي لا يناقض محبته التي يرجوها. وهذا الأمر المهم جداً يتطلب التجرد التام والبحث برغبة صادقة للوصول إلى النتيجة التي يتحقق بها موافقة الشرع والحصول على الأجر والثواب. الوقفة الثانية: من المؤكد جداً، والذي لا يختلف فيه اثنان أن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد الصحابة رضوان الله عليهم وفي عهد التابعين وحتى سنة ثلاثمائة وخمسين للهجرة لم يوجد أحد لا من العلماء ولا من الحكام ولا حتى من عامة الناس!! قال بهذا العمل أو أمر به أو حث عليه أو تكلم به. قال السخاوي: «عمل المولد الشريف لم يُنقل عن أحد من السلف الصالح في القرون الثلاثة الفاضلة وإنما حدث بعد». وإن من المعروف في التاريخ أيضاً أن أول من أحدث ما يسمى بالمولد النبوي هم بنو عبيد الذين اشتهروا بالفاطميين وهم أصحاب بدع وتحريف للدين كما سُطِّر عنهم ذلك في التاريخ، وبالتالي فهو أمرٌ لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابتُه الكرام، وهنا موضع تساؤل مهم!! لماذا لم يفعله الصحابة الكرام ولماذا لم يأمروا به؟! إذا كان هذا الاحتفال يعبِّر عن محبة للنبي المصطفى عليه الصلاة والسلام فلماذا لم يأمر به عليه الصلاة والسلام؟! وقد قال: «والذي نفسي بيده، لا يُؤمِنُ أحَدُكُم حتَّى أكونَ أحبَّ إليه من وَلَدِهِ ووَالِدِهِ».أخرجه البخاري ومسلم. وإذا كان هذا الاحتفال مما يُتقرب به إلى الله تعالى فلماذا لم يفعله الصحابة الكرام، وهم أكثر وأشد الأمة محبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد ضربوا الأمثلة العظيمة والرائعة في إثبات محبتهم للنبي أشد من محبة النفس والولد والوالد. الإجابة التي لا ينبغي أن يختلف فيها اثنان: أن يقال «لو كان خيراً لسبقونا إليه». قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: «وأما أهل السنة والجماعة فيقولون في كل فعل وقول لم يثبت عن الصحابة: هو بدعة؛ لأنه لو كان خيرًا لسبقونا إليه، لأنهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا إليها». هؤلاء السلف الصالح وعلى رأسهم الصحابة رضي الله عنهم لا يمكننا أن نتصور أنهم جهلوا خيراً يُقربهم إلى الله زلفى وعرفناه نحن!! وإذا قلنا إنهم عرفوا كما عرفنا؛ فإننا لا نستطيع أن نتصور أبداً أنهم أهملوا هذا الخير. الوقفة الثالثة: هناك آيات وأحاديث كثيرة تبين أن الإسلام قد كَمُلَ ، وهذه حقيقة يعرفها العالم والجاهل والأمي وغيرهم، وقد قال الله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً». وقد سبق بيان أن هذا المولد لم يكن في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم - وعلى هذا فنقول: إن هذا المولد إن كان خيراً فهو من الإسلام، وإن لم يكن خيراً فليس من الإسلام؟ ويوم أُنزلت هذه الآية: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» لم يكن هناك احتفال بالمولد النبوي؛ فهل يكون ديناً يا ترى؟! فالمولد إذا كان من الخير فهو من الإسلام، وإذا لم يكن من الخير فليس من الإسلام، وإذا اتفقنا أن هذا الاحتفال بالمولد لم يكن حين أُنزلت الآية السابقة؛ فبَدَهي جداً أنه ليس من الإسلام. ومما يؤكد هذا المعنى قول إمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس: «من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة»، ثم قال: «اقرأوا إن شئتم قول الله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِيناً»، فما لم يكن يومئذٍ ديناً لا يكون اليوم ديناً». انتهى كلامه. متى قال الإمام مالك هذا الكلام؟! في القرن الثاني من الهجرة، أحد القرون المشهود لها بالخيرية! فما بالنا بالقرن الخامس عشر؟! ولنتأمل مرة أخرى قوله: «فما لم يكن يومئذٍ ديناً؛ فلا يكون اليوم ديناً». اليوم الاحتفال بالمولد النبوي «دين»، ولا نحتاج إلى إثبات ذلك بالأدلة، فهي من أوضح الواضحات. فكيف يكون هذا من الدين ولم يكن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا في عهد الصحابة ولا في عهد التابعين ولا في عهد أتباع التابعين؟!