يحتارُ المرءُ في فهم طبيعة الخلافات والصدامات القبلية العنيفة عند أهلنا البقّارة والأبّالة في غرب كردفان وشمال دارفور، التي تدور رحاها بين أبناء العمومة، وهي امتدادات لصراعات حدثت من قبل وصُور متكرِّرة لخلافات هذه القبائل التي تُحسم دائماً بقوة السلاح، وتنشأ لأتفه الأسباب... وبالرغم من الإرث التاريخي العريض لتجارب هذه القبائل في التعايش السلمي وحل الخلافات والنزاعات ووجود أعراف راسخة ورجال وأحلام تزن الجبال رزانة كما يقول الشاعر العربي القديم الفرزدق، إلا أن الدِّماء تسيل بغزارة ويقتتل أبناء العمومة فيما بينهم كأن دُقَّ بينهم عِطُر مِنشم، أو نزغ الشيطان بينهم.. ففي غرب كردفان استَعَرَتْ نار احتراب بين أفخاذ وبيوت من المسيرية حتى وصلت مدينة الفولة وسقط عددٌ كبير من القتلى، في الوقت ذاته شهدت مناطق الرسيف بني حسين في شمال دارفور نزاعًا مسلحًا ودمويًا بين قبائل تربطها صلة الدم ووشائج القربى، راح ضحيته العشرات من الشباب والأبرياء.. قبل البحث عن الأسباب التي تتعدد ولا تُحصى، لعنة النفط والذهب في المنطقتين، يجب الإقرار أن هناك عجزًا حكوميًا واضحًا في كل النزاعات التي تنشأ بين القبائل في مناطق السودان المختلفة وخاصَّة غرب السودان، فالسلطات المحليَّة قاصرة وتعاني من ضعف إداري واضح، لا تستطيع حسم مثل هذه الصراعات ولا لجم شيطانها وحصانها، وقد تتضافر عوامل أخرى تتعلق بتركيبة السلطات الولائيَّة والمحليَّة، تجعل من هذه الحكومات الولائيَّة غير قادرة تماماً على فعل شيء وتجلس القرفصاء تتفرج على ما يحدث.. وتوجد حكومات ولائية تتغافل عن إرهاصات وبوادر بيِّنة وجليَّة أمامها وتتعامى أعينها حتى تقع الفأس في الرأس. لكن الأهم في هذا الأمر هو مستوى جدية الحكومة الاتحادية في تتبُّع الأحداث والتعامل معها بحزم وكياسة، ففي قضية غرب كردفان والصراع المتجدِّد بين بطون وأفخاذ قبيلة المسيرية، كان هذا الملف بكل تفاصيله أمام الحكومة ورئاسة الجمهورية، وتم تكليف مسؤول سيادي رفيع بمتابعته، لكن الشواغل الكثيرة وعدم التركيز والبطء جعل من القضية والصراع يتفاقم ويتسع رتقُه من نزاع صغير ومحدود إلى حرب شاملة بين الطرفين وصلت إلى الحواضر والمدن وخلّفت عددًا كبيرًا من القتلى وتم حرق منازل ومرافق خدميَّة، ووصلت الجرأة إلى حرق منزل معتمد يمثل أعلى سنام السلطة في المنطقة! وكذلك الأمر في شمال دارفور، فالمعلومات عن التوترات موجودة قبل مدة، والاحتقانات ظلت تعتمل في النفوس وينداح قيحها في شكل استفزازات متبادلة بين أبناء هذه القبائل في منجم الذهب في جبل عامر ومناطق أخرى في شمال دارفور، والحكومة الاتحادية قبل الولائية تعلم بوجود السلاح الكثيف وتعرف مدى شراسة هذه القبائل وقدرتها على القتال، فلم يتحرَّك أحد ولم تتخذ من الاحتياطات اللازمة لدرء الفتن ومنع الانزلاق نحو هاوية الصراع.. على الحكومة التحرك اليوم قبل الغد، وعدم ترك الأمور كما يحدث دائماً في الصراعات القبليَّة يُقام مؤتمر للصلح القبلي بين المتحاربين وتهدأ الخواطر قليلاً ويتم حصر القتلى وتحديد الديات والخسائر الأخرى وتصدر التوصيات والقرارات، ثم ينفضّ الجميع، وتضع الحكومة كل ما خرجت به المؤتمرات في آبارها السحيقة وتنسى تطبيق ما اتُّفق عليه وتُهمل الحلول الموضوعة وتتجاهل نصائح «الأجاويد» من أهل الحكمة من الإدارات الأهلية وزعماء القبائل من أولي النظر والتجربة والخبرة، فتنشغل الخرطوم وحكومتها الاتحادية بما يليها، وتهدأ أنفاس الحكومات الولائية بما وجدته من سانحة لالتقاط الأنفاس، وتضيع الدماء هدراً وتُهدم صروح المسؤولية والواجب في آن واحد.. إن تجدُّد الصراعات القديمة وسقوط هذه الأعداد المهولة دليل على حالة من العجز والضعف في إدارة شؤون الناس، وهو أمرٌ غير مقبول ويجب محاسبة ومساءلة كل من له صلة بهذه المناطق.. وتحتاج الدولة للنظر بعمق أكثر من ذي قبل في كيفية فهم أسباب هذه الصراعات وطبيعتها وإيجاد مناهج ووسائل جديدة لحلها.. --- الرجاء إرسال التعليقات علي البريد الإلكتروني عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.