إنزلقت الأوضاع بشكل مفاجئ في منطقة بليلة بمحلية كيلك بولاية جنوب كردفان، الى مواجهات مؤسفة بين فخذين من قبائل المسيرية «أولاد هيبان وأولاد سرور»، أسفرت عما لا يقل عن 002 قتيل ومئات الجرحى بينهم أطفال ونساء وشيوخ. وأسفرت المواجهات كذلك عن حرق لقرى واتلاف للممتلكات وتدمير لكل ما طالته الايدي. كل هذا الخراب الذي طال الارواح والعلاقات والممتلكات لم يتجاوز في مداه الزمني الاسبوع الواحد، حيث توقف القتال بمجهودات القيادات الاهلية المحلية وتدخلها المباشر للفصل بين الطرفين. فقد نجح وفد الزعامات الاهلية من الحوازم? والنوبة والحمر بعد زيارة المنطقة، من وقف النزيف القبلي الحاد بين أبناء العمومة في تلك المنطقة. ولكن هناك الكثير من علامات الاستفهام التي ترتسم على الذهن حول هذه الاحداث المفاجئة وحجم الدمار الكارثي الذي رافقها، وعن الايدي المحركة والعقول المدبرة للفتنة، ودور القيادات الرسمية الميدانية والولائية والعاصمية في ما حدث ويحدث على صعيد مجتمع غرب كردفان عموماً وليس فقط محلية «كيلك». ومن المهم هنا الاشارة الى ان المواجهات الاخيرة هي امتداد لنزاع سابق بين القبيلتين حول الارض والموارد، انتهى بمؤتمر للصلح عُقد بمدينة?الابيض شهر أغسطس الماضي برعاية حكومية. ولكن ظلت مخرجات ذلك المؤتمر حبرا على ورق بسبب عدم متابعة الأخيرة لدورها . شأنها في ذلك مع كل الاتفاقات التي عُقدت لهذا النوع من النزاعات في المنطقة، على الرغم من وجود لجنة للتصالحات بولاية جنوب كردفان. كما أنه من المهم أيضاً الاشارة الى ان هذا النزاع ليس هو الاوحد في المنطقة، بل إن هذا النوع من النزاعات ظل حاضرا دونما انقطاع على امتداد منطقة غرب كردفان من شرقها الى غربها ومن شمالها الى جنوبها وبلا استثناء لاي جزء منها. وهذه النزاعات هي ليست نزاعات على أسس عنصرية أو جهوية وانما هي بالدرجة الاساس مرتبطة بالموارد الشحيحة وبتضارب المصالح الحياتية ومرتبطة أيضاً بتخلف المجتمع وبغياب دور الدولة وغياب سلطة القانون. من الأشياء اللافتة للنظر في مواجهات اولاد سرور وأولاد هيبان، مستوى التسليح وحجم الاسلحة المستخدمة. فقد استخدم الطرفان وبكثافة زائدة أسلحة ثقيلة من نوع مدافع الهاون والدوشكا وقاذفات ال RBG. كما استُخدمت في هذا القتال آليات جديدة على المنطقة أبرزها الدراجات النارية التي ظهرت بالمئات وعلى امتداد جغرافي واسع. وكان معتمد محلية الدلنج «عوض خير الله» قد ذكر قبل ثلاث سنوات في أحد المؤتمرات بالولاية أن المجمعات القبلية «الفرقان» بها أسلحة ثقيلة تستخدم بمهارة. وليس هذا هو المظهر الوحيد للتسليح الصارخ للقبائل في ه?ه المنطقة، فقد كشفت الاحداث التي عُرفت بأحداث «شقادي» عام 9002م في منطقة الميرم بين الرزيقات والمسيرية عن تجهيزات عسكرية تتجاوز ما لدى القوات النظامية الرسمية من سيارات مجهزة برشاشات ومدافع وغير ذلك، وحشود بالآلاف. كذلك دخلت ظاهرة أصحاب الدراجات النارية «المواتر» كشكل جديد من أشكال التهديد الامني بالمنطقة، ولكنها ظهرت دفعة واحدة وبطريقة منظمة تفيد بان هناك ايادٍ محركة من خلفها. فقد وُجدت هذه الظاهرة مع بداية حركة قوافل العودة الطوعية لابناء الجنوب نهاية العام الماضي، حيث تم الاعتداء على المواطنين ونهب ممتلكاتهم وتعرضوا للقتل والسلب والاهانة. ثم امتدت الظاهرة الى اعتراض القطارات المتجهة نحو الجنوب، ونهب المواد المحملة فيها، وآخر هذه الاحداث شهد اشتراك اصحاب الدراجات النارية باعداد كبيرة في نهب احد هذه القطارات. وبملاح?ة عامة فان السلاح الموجود لدى المجتمعات القبلية في المنطقة ليس سراً ولا خافياً على الحكومة الولائية او المركزية، بل من المحتمل ان يكون وراء تسرب الاسلحة الى هذه المجتمعات نافذون في الحكومة وحزبها، لانه وببساطة شديدة ليس هناك أية جهة لديها القدرة على القيام بهذا النوع من الاعمال خارج مظلة السلطة. كما ان ما عُرف بحرب الوثائق بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية عام 9002م قد تضمن اتهامات مباشرة في هذا الخصوص. أياً كان الامر فالسؤال المركزي هو من الذي قام بتسليح القبائل في غرب كردفان او غيرها، ولماذا لم يتم نزع سلاح هذه القبائل حتى لا يتحول الى صدور أبناء القبيلة الواحدة؟ ولمصلحة من دفع المجتمع البسيط الى هذا النوع من الصراعات والصدامات؟ أكثر من ذلك ما فائدة ما يسمى بلجنة التصالحات اذا كانت القبائل تقتتل بهذا المستوى الكارثي المدمر، والناس لا يأمنون على مساراتهم ولا على ممتلكاتهم ولا على قراهم وزرعهم بل وحياتهم. من زاوية أخرى هل فوجئت الأجهزة الرسمية المحلية تحديداً بما حدث أم أنها كانت تمتلك من المعلومات ما يشير الى احتمال حدوثه؟ اذا كانت الاجابة بنعم فتلك مصيبة، اذ ما دور هذه الاجهزة والسلطات، اذا لم يكن السهر على أمن وسلامة المواطنين ورصد أي مهدد لحياتهم ومنعه من الحدوث؟ واذا كانت الاجابة بلا فتلك مصيبة اكبر، لانه يعني ان هذه السلطات ضالعة فيما حدث باتخاذها موقف المتفرج الى حين وقوع الكارثة. وفي الحالين فان هذه الاحداث تفيد بعجز وفشل السلطات الرسمية على مستوى ولاية جنوب كردفان من قمتها وحتى أصغر حلقة فيها، وتفيد بعدم اهلية هؤلاء على تحمل المسؤولية بامانة واقتدار، اذا ما الذي يبقى بعد زهق ارواح المواطنين هكذا بالمئات امام أعين السلطة؟ والسلطة المركزية هي الاخرى ليست استثناءً عما جرى ويجري لاهالي غرب كردفان. فالتسليح والدراجات النارية لم تأت من المجتمعات المحلية او الولائية وانما جاءت من خارج المنطقة، وربما يكون دور المحليين والولائيين مكملاً فقط. كما انها لم تأت من الجنوب، وبالتالي هناك دوائر بعينها هي التي أمدت هذه المجتمعات بالاسلحة والذخائر والمواتر. والواجب هو معرفة من هم هؤلاء ولمصلحة من يعملون ولماذا يدفعون هذه المجتمعات للتهلكة؟ لقد ظلت هذه المنطقة في نظر الحكومة المركزية وحزبها القابض، مخزنا للثروة النفطية، التي تُوظف في تشييد غابات الاسمنت ورفاهية الحكام والمحاسيب واساطيل السيارات الفارهة، بينما لا يجد البسطاء من أهل المنطقة غير العطش والشقاء وبؤس الحال، والجهل الذي يجعلهم لا يعرفون أين صديقهم من عدوهم. هناك مفارقات شاذة وغريبة في أمر منطقة غرب كردفان، فالمنطقة التي تنتج النفط الذي يتمتع به السادة الحكام، لا تعرف شوارع الاسفلت، ولا تعرف الكهرباء ولا تعرف شبكات المياه، ولا تعرف المستشفى ولا عربة الاسعاف ولا عربة المطافئ. لا يعرف شبابها الوظائف، ولا يعرف تلامذتها ومعلموها المدارس المؤثثة والوسائل التعليمية الحديثة، ولا يعرف اطفالها لُعب الاطفال ولا تعرف نساؤها القابلات عند الولادة. ولكن النخبة الحاكمة من ابنائها تعيش حياة البذخ والدعة ورغد العيش وهم يستمتعون بمآسي اهليهم وذويهم وبالموت المجاني بينهم. لقد دفع مجتمع المسيرية ثمن انتاج النفط في منطقته باهظاً ومكلفاً، ما بين المساومة باراضيه ضمن صفقة نيفاشا الثنائية وما بين استباحة الشركات المنتجة للنفط للبيئة الرعوية، وما بين الاهمال الرسمي المتعمد للتنمية والخدمات، وما بين استغلال النخب الانتهازية من أبناء المنطقة للتخلف وجهل البسطاء وهكذا. المطلوب تحقيق فوري جاد حول أحداث بليلة لا يستثنى طرفاً من المسؤولية بدءاً من الادارات الاهلية التي اشتركت في القتال والسلطات المحلية التي تتجه اصابع الاتهام نحوها، الى لجنة المصالحات الفاشلة، الى الجهات التي اوجدت السلاح والى الدوائر التي اوجدت ظاهرة المواتر، الخ الخ.. إن ارواح هؤلاء البسطاء الابرياء ليست رخيصة للدرجة التي تزهق بهذه الدرجة من الاستهوان وانعدام المسؤولية.