ما نزل تحت الشجرة إلا نبي! قال ابن إسحاق: وكانت خديجة، بنت خويلد، امرأة تاجرة، ذات شرف، ومال، تستأجر الرجال، في مالها، وتضاربهم إياه، بشيء تجعله لهم. وكانت قريش قومًا تِجَارًا، فلما بلغها عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما بلغها من صدق حديثه، وعظم أمانته، وكرم أخلاقه، بعثت إليه، فعرضت عليه أن يخرج في مال لها، إلى الشام تاجرًا، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره، من التِّجَار، مع غلام لها، يقال له ميسرة. فقبله رسول الله، صلى الله عليه وسلم، منها، وخرج في مالها ذلك، وخرج معه غلامها ميسرة، حتى قدم الشام. فنزل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في ظل شجرة، قريبًا من صومعة راهب، من الرهبان، فاطلع الراهب إلى ميسرة، فقال له: من هذا الرجل الذي نزل تحت هذه الشجرة؟ قال له ميسرة: هذا رجل من قريش من أهل الحرم. فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي! «وقد ذكر الشيخ طه عبد الرؤوف سعد: أن الراهب أراد ما نزل تحتها هذه الساعة إلا نبي، ولم يرد ما نزل تحتها قط إلا نبي. لبُعد العهد بالأنبياء. والشجرة لا تعمر في العادة هذا العمر الطويل، حتى يدري أنه لم ينزل تحتها إلا عيسى، أو غيره من الأنبياء عليهم السلام. وهذا الراهب ذكروا أن اسمه نسطورا وليس هو بَحيرَى المتقدم ذكره». مَلَكَان يظلانه! قال ابن إسحاق: ثم باع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سلعته التي خرج بها، واشترى ما أراد أن يشتري، ثم أقبل قافلاً إلى مكة ومعه ميسرة. فكان ميسرة، إذا كانت الهاجرة، واشتد الحر، يرى ملكين يظلَّانه من الشمس، وهو يسير على بعيره. فلما قدم مكة، على خديجة بمالها، باعت ما جاء به، فأضعف أو قريبًا. وحدثها ميسرة عن قول الراهب، وعما كان يرى من إظلال الملكين إيّاه! قال ابن إسحاق: وكانت خديجة بنت خويلد، قد ذكرت لورقة بن نوفل، وكان ابن عمها، وكان نصرانيًا، قد تتبع الكتب، وعلم من علم الناس، ما ذكر لها غلامها ميسرة، من قول الراهب، وما كان يرى منه، إذ كان الملكان يظلانه. فقال ورقة: لئن كان هذا حقًا يا خديجة، إن محمدًا لنبي هذه الأمة. وقد عرفت أنه كائن لهذه الأمة نبي يُنتظر، هذا زمانه. أو كما قال! شُدَّ عليك إزارك! قال ابن إسحاق: وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيما ذُكر لي، يحدث عما كان الله يحفظه به، في صغره، وأمر جاهليته. فقال، صلى الله عليه وسلم: لقد رأيتني في غلمان قريش، ننقل حجارة، لبعض ما يلعب به الغلمان، كلنا قد تعرّى، وأخذ إزاره، فجعله على رقبته، يحمل عليه الحجارة. فإني لأقبل معهم كذلك، وأدبر، إذ لكمني لاكمٌ، ما أراه، لكمةً وجيعة. ثم قال: شُدَّ عليك إزارك. قال: فأخذته، وشددته علي، ثم جعلت أحمل الحجارة، على رقبتي، وإزاري علي، من بين أصحابي! جاء الأمين واستفاض النور المبين! قال ابن إسحاق: ثم إن قريشًا جزأت الكعبة. ثم إن الناس هابوا هدمها، وفَرَقوا منه. فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المِعْول، ثم قام عليها. وهو يقول: اللهم إنا لا نريد إلا الخير. ثم هدم من ناحية الركنين، فتربص الناس تلك الليلة. وقالوا: ننظر، فإن أُصيب، لم نهدم منها شيئًا، ورددناها كما كانت. وإن لم يصبه شيء، فقد رضي الله صنعنا، فهدمنا. فأصبح الوليد من ليلته، غاديًا على عمله، فهدم، وهدم الناس معه. حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس - أساس إبراهيم، عليه السلام - أفضوا إلى حجارة، خُضر، كالأسنمة، آخذٌ بعضها بعضًا. قال ابن إسحاق: فحدثني بعض من يروي الحديث: أن رجلاً من قريش ممن كان يهدمها، أدخل عَتَلةً بين حجرين، منها ليقلع بها أحدهما، فلما تحرك الحجر، تنقَّضت مكة بأسرها، فانتهوا عن ذلك الأساس. قال ابن إسحاق: ثم إن القبائل من قريش، جمعت الحجارة لبنائها، كل قبيلة تجمع على حدة، ثم بنوها، حتى بلغ البنيان، موضع الركن. فاختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه، دون الأخرى، حتى تحاوزوا، وتحالفوا، وأعدوا للقتال. قال ابن إسحاق: فمكث قريش أربع ليال، أو خمسًا، ثم إنهم اجتمعوا في المسجد، وتشاوروا وتناصفوا. فزعم بعض أهل الرواية أن أبا أمية بن المغيرة، وكان عامئذٍ أسن قريش كلها، قال: يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه، أول من يدخل من باب هذا المسجد، يقضي بينكم فيه، ففعلوا. قال ابن إسحاق: فكان أول داخل عليهم، رسول الله، صلى الله عليه وسلم. فلما رأوه قالوا: هذا الأمين، رضينا، هذا محمد. فلما انتهى إليهم، وأخبروه الخبر، قال صلى الله عليه وسلم: هلمَّ إليّ ثوبًا، فأُتي به، فأخذ الركن فوضعه فيه بيده. ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعًا، ففعلوا، حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه هو بيده، ثم بنى عليه. وكانت قريش تسمي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قبل أن ينزل عليه الوحي: الأمين!