ملّ انتظار القطار فأدار ظهره للقضبان الحديدية التى تملأ محطة القطار. وقف يتأمل غروب الشمس وحبات مسبحته تتسلل من بين أصابعه. جاءت ثلاثة قطارات ولم يعرها التفاتاً لأنه كان يعرف صفارة قطاره من إدمانه الترحال حتى أنه نمت بينهما ألفة وصارت بينه وبين ذلك الزير القابع في إحدى زوايا عربات الدرجة الرابعة مودة متينة وصار لايحلو له الجلوس إلا جواره.ابتسم وهز رأسه فقد كان شريط الذكريات يجري متتابعاً فى مخيلته.تعجب كيف أن الناس تتشنج فى السفر ويعلو الصراخ والشتم ولكن ما أن يتحرك القطار حتى تهدأ النفوس وكأن القطار امتص طاقتها الغاضبة ليستعين بها فى مشواره الطويل فتصير لطيفة ولاينفض الركب الا وكل قد وجد صديقا أو قريبا.ابتسم مرة أخرى ودون وعى منه خرجت من فمه:«سبحان الله». وجرت حبات مسبحته بين أصابعه كما تعودت.وأخيراً وصل قطاره المنتظر وهرولت كتل البشر التي ملت الانتظار تتسابق للفوز بمقعد تحمله أثقالها فى رحلة مجهولة مدتها.إلاهو وحده الذى صعد فى خطى وئيدة دونما إستعجال بل إنه كان يفسح المجال لمن يضايقه لأنه كان يعلم أن مكانه قرب الزير سيكون محجوزا له ولن يفكر أحد فى احتلاله لأن من يجلس هناك سيضيق حتما بالزير وزواره الذين لاينقطعون أما هو فلا.إنه لايعرف الضجر ولا الملل فهو جلمود من الصبر.أحس بخطوات القطار وهو يجرجر عجلاته المثقلة بالناس وهمومهم خارجا من المحطة بخطى وئيدة.جاءه صوت صبي من آخر الممر وهو يردد مع صوت عجلات القطار البطيئة :«دق.دق.دق.قلبي انقطع.قلبي انقطع.».توقفت حبات المسبحة عن الجريان.أرخى أذنيه يريد أن يتأكد من صحة مايردده الصبي.جاءه صوت العجلات وهي تئن مستنجدة ::«ياحي ياقيوم.ياحي ياقيوم.»إنطلق القطار.سمع الطفل يزيد سرعته ويحرك يديه للأمام والخلف كما يفعل الاطفال عندما يلعبون لعبة القطار «قطر قطر»وهو يرفع صوته صائحاً :«قرَّبتَ أصل.قرَّبتَ أصل».مرة أخرى تجمدّت حبات المسبحة وأرخى السمع فجاءه صوت القطار كمن يلهث وهو يجري علّه يسرع فى التخلص من عبئه الثيل :«يارزاق ياكريم يامعين يارزاق ياكريم يامعين».إرتخت أعصابه.عادت حباتُ المسبحة للانزلاق من بين أنامله.طغى صوت الصبي على همسات مسبحته:«توووت.قرَّبت اصل.قرَّبت اصل.»وفجاءة انقطع صوته بانتهار والده له: ياولد بس».ساد سكون رهيب وانقطعت الهمهمات وكأن تلك الصرخة كانت للجميع.وفجأة ارتفعت همهمته وقد راحت مسبحته تتحرك جيئة وذهابا بين سبابته وإبهامه وجسمه يهتز مع حركة القطار :قربت أصل.قربت أصل ».اتجهت كل الانظار بشتى تعابيرها اليه وكأنها جذبت بمغناطيس خفى.وفجأة شقّت قهقهة جافة جدار الصمت.وقبل أن يدخل القطار المحطة التالية كانت كل العربة تردد بلحن متناغم:«قربت أصل.قربت أصل » حتى أنهم لم يحسوا بدخول القطار المحطة التالية إلى أن ارتفع صوت الصبي مرة أخرى وهو يجريي فى الممر : «تووووت.توووت.تششش» وصوت إمرأة تصيح فيه وتصفعه بعنف على ظهره وقد داس على رجلها بقوة وهو يقف بقوة بعد كلمة«تششش» :«ياشافع الله يصرفك.قطعت أصبعي» وصياح أخرى وهى تمد يدها لتحمي طفلتها النائمة على بطانية قديمة على الخشبية: «ياولد ماتعفص علىّ البت دي».وقف القطار فنهض الجميع بتثاقل واتجهوا نحو الابواب والشبابيك وارتفعت أصوات الباعة وساد الهرج والصعود والنزول وظل هو فى مكانه قرب الزير يناول الماء في صبر وكأنه موكل به وكأن كل مايجري لايعنيه.وفجأة ازدادت الضجة وأسرعت الخطى وأختلطت صفارة القطار بصفارة الصبي :«توووت.تش.قلبي انقطع.قلبي انقطع».صار يحرك رأسه لأعلى وأسفل مع نغمات الصبي وحبات مسبحته تتسابق فى الانزلاق من بين أنامله وسرح بصره فى الفراغ الجاري عكس القطار.وفجأة انتبه بوكزة خفيفة على كتفه وكوب ألمونيوم قديم يكاد يخترق عينه وصوت طفلة تستجدي عيناها تلحان فى المسألة :«ياعم عايزة موية». نهض دون وعى وامتدت يده فى حركة آلية لتأخذ الكوب وتدخله فى الزير وتمتد تارةً هنا لصوت وأخرى هناك لصوت شيخ وثالثة ورابعة وعاشرة ولم ينتبه إلا على بكاء الطفلة وصراخها: «ياعم عايزة الكوز أنا إتأخرت أمي بتدّقّني».. أخرج الكوب من الزير. وجده فارغاً. تحيَّر أدخله مرة أخرى وجال به فى بطن الزير. لم يسمع سوى قعقعة. أخرجه فإذا هو فارغ. وضع رجله على حافة الحمالة الخشبية وأدخل رأسه فقعقع الكوب في القاع ولكنه خرج في النهاية فارغاً إلا من بقايا خضراء كانت تترسب في القاع من طول الزمن. نظر إلى الطفلة في أسف تمزجه الحيرة ورفع كتفيه ومط شفتيه.مدّ لها الكوب ببقاياه الخضراء فى تثاقل وقد انكسر بصره نحو الأرض. جاءه صوت الصبي يمازجه أنين القطار: «قلبي انقطع. قلبي انقطع.»