أنباء عن اغتيال ناظر في السودان    الصادق الرزيقي يكتب: الدعم السريع وشهية الحروب التي فُتحت في الإقليم    خسائر ضخمة ل"غانا"..تقرير خطير يكشف المثير    إسرائيل تستهدف القدرات العسكرية لإيران بدقة شديدة    "خطوة برقو" تفجّر الأوضاع في دارفور    الترجي يسقط أمام فلامنغو في مونديال الأندية    الحلقة رقم (3) من سلسلة إتصالاتي مع اللواء الركن متمرد مهدي الأمين كبة    افتتاح المرحلة النهائية للدوري التأهيلي للممتاز عصر اليوم باستاد الدامر.    فيكم من يحفظ (السر)؟    في السودان :كيف تتم حماية بلادنا من اختراق المخابرات الإسرائيلية للوسط الصحفي    من الجزيرة إلى كرب التوم..هل دخل الجنجويد مدينة أو قرية واستمرت فيها الحياة طبيعية؟    التقى بروفيسور مبارك محمد علي مجذوب.. كامل ادريس يثمن دور الخبراء الوطنيين في مختلف المجالات واسهاماتهم في القضايا الوطنية    هيمنة العليقي على ملفات الهلال    الحرب الايرانية – الاسرائيلية: بعيدا عن التكتيات العسكرية    نشاط مكثف لرئيس الوزراء قبل تشكيل الحكومة المرتقبة    نقل أسلحة إسرائيلية ومسيرات أوكرانية الى افريقيا بمساعدة دولة عربية    والي الخرطوم يصدر عدداً من الموجهات التنظيمية والادارية لمحاربة السكن العشوائي    أدوية يجب تجنب تناولها مع القهوة    شاهد بالصور والفيديو.. الفنان حسين الصادق ينزع "الطاقية" من رأس زميله "ود راوة" ويرتديها أثناء تقديم الأخير وصلة غنائية في حفل حاشد بالسعودية وساخرون: (إنصاف مدني النسخة الرجالية)    رئيس الوزراء يطلع على الوضع الصحي بالبلاد والموقف من وباء الكوليرا    إدارة مكافحة المخدرات بولاية البحر الأحمر تفكك شبكة إجرامية تهرب مخدر القات    شاهد بالصورة والفيديو.. وسط ضحكات المتابعين.. ناشط سوداني يوثق فشل نقل تجربة "الشربوت" السوداني للمواطن المصري    (يمكن نتلاقى ويمكن لا)    سمير العركي يكتب: رسالة خبيثة من إسرائيل إلى تركيا    عناوين الصحف الرياضية السودانية الصادرة اليوم الأثنين 16 يونيو 2025    شاهد بالفيديو.. الجامعة الأوروبية بجورجيا تختار الفنانة هدي عربي لتمثل السودان في حفل جماهيري ضخم للجاليات العربية    شاهد بالفيديو.. كشف عن معاناته وطلب المساعدة.. شاب سوداني بالقاهرة يعيش في الشارع بعد أن قامت زوجته بطرده من المنزل وحظر رقم هاتفه بسبب عدم مقدرته على دفع إيجار الشقة    رباعية نظيفة .. باريس يهين أتلتيكو مدريد في مونديال الأندية    بالصورة.."أتمنى لها حياة سعيدة".. الفنان مأمون سوار الدهب يفاجئ الجميع ويعلن إنفصاله رسمياً عن زوجته الحسناء ويكشف الحقائق كاملة: (زي ما كل الناس عارفه الطلاق ما بقع على"الحامل")    على طريقة البليهي.. "مشادة قوية" بين ياسر إبراهيم وميسي    المدير العام للشركة السودانية للموارد المعدنية يؤكد أهمية مضاعفة الإنتاج    المباحث الجنائية المركزية بولايةنهر النيل تنجح في فك طلاسم بلاغ قتيل حي الطراوة    من حق إيران وأي دولة أخري أن تحصل علي قنبلة نووية    أول دولة عربية تقرر إجلاء رعاياها من إيران    السودان..خطوة جديدة بشأن السفر    3 آلاف و820 شخصا"..حريق في مبنى بدبي والسلطات توضّح    ضربة إيرانية مباشرة في ريشون ليتسيون تثير صدمة في إسرائيل    بالصور.. زوجة الميرغني تقضي إجازتها الصيفية مع ابنتها وسط الحيوانات    معلومات جديدة عن الناجي الوحيد من طائرة الهند المنكوبة.. مكان مقعده ينقذه من الموت    بعد حالات تسمّم مخيفة..إغلاق مطعم مصري شهير وتوقيف مالكه    رئيس مجلس الوزراء يؤكد أهمية الكهرباء في نهضة وإعادة اعمار البلاد    إنهاء معاناة حي شهير في أمدرمان    وزارة الصحة وبالتعاون مع صحة الخرطوم تعلن تنفيذ حملة الاستجابة لوباء الكوليرا    فجرًا.. السلطات في السودان تلقيّ القبض على34 متّهمًا بينهم نظاميين    رئيس مجلس الوزراء يقدم تهاني عيد الاضحي المبارك لشرطة ولاية البحر الاحمر    وفاة حاجة من ولاية البحر الأحمر بمكة    اكتشاف مثير في صحراء بالسودان    رؤيا الحكيم غير ملزمة للجيش والشعب السوداني    محمد دفع الله.. (صُورة) تَتَحَدّث كُلّ اللُّغات    في سابقة تعد الأولى من نوعها.. دولة عربية تلغي شعيرة ذبح الأضاحي هذا العام لهذا السبب (….) وتحذيرات للسودانيين المقيمين فيها    شاهد بالفيديو.. داعية سوداني شهير يثير ضجة إسفيرية غير مسبوقة: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام وأوصاني بدعوة الجيش والدعم السريع للتفاوض)    تراجع وفيات الكوليرا في الخرطوم    أثار محمد هاشم الحكيم عاصفة لم يكن بحاجة إلي آثارها الإرتدادية علي مصداقيته الكلامية والوجدانية    وزير المالية السوداني: المسيرات التي تضرب الكهرباء ومستودعات الوقود "إماراتية"    "الحرابة ولا حلو" لهاني عابدين.. نداء السلام والأمل في وجه التحديات    "عشبة الخلود".. ما سرّ النبتة القادمة من جبال وغابات آسيا؟    ما هي محظورات الحج للنساء؟    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تداخلات
نشر في الأهرام اليوم يوم 13 - 09 - 2010

في عينيه ركضت هواجس، معالم لا تُحد، خربشات عميقة بين الذاكرة والرؤية، حدق في كل الناس، التف بهم، تداخل مع نبضاتهم، امتص معهم لحظات الانتظار، اختنق مثلهم بضوضاء المحطة ولم يقل شيئا لمن داس على أصابع رجليه بنعلين ثقيلين، كان واقعيا، ليس هناك مفر من أن تكون رجلاه جزءاً لا يتجزء من أرضية ممر الدرجة الثانية الممتازة، حاول أن يجلس، إنها الممتازة، عدل عن الفكرة لأن تكوينه الجسماني لا يسمح له بالجلوس، حاول أن يمتص انفعالاته بأن يقرأ شيئا من الشعر، رن جرس المحطة.
انت يا خي القطر ده حقك
ما قلنا مافي طريقة، الله
الطريقة بعرفا براي، بس انت اتحرك من الباب
والله ما في طريقة، شوف العربية التانية
ما في زمن، انت ما سامع الجرس؟
{ أحسن تتحرك من الباب بالحسنة
خلي عندك دم في وشك
يعني داير تعمل شنو؟
اختلطت الأجساد على الباب، غابت الأسلحة البيضاء ودخلت السن في اللحم، عراك في مساحة ضيقة، تدخل المطيباتية وانتصر القادم الجديد بينما الآخر يصدر أنينا ويصرخ: راجل كبير تعضي بي سنونك.
رن الجرس للمرة الثانية.
{ الدرجة الثانية
العرق علي كل جبين، صرخات الباعة، ضجيج المزدحمين داخل العربة، أقدام تبحث عن موضع بين العفش المتناثر في كل مكان.
يا اخوانا الناس القاعدين في الشباك ما يرحمونا شويه
هبوبك يا الله
والكل في انتظار نسمة تهب عند تحرك القطار
سقطت شنطة حديدية ثقيلة على عجوز كانت تقف بقرب أحد المقاعد آملة في فعل المروءة، صرخت وانفجرت ثائرة: (الله يلعن سفر الزمن ده ويلعن ناس الزمن ده، ناس ما فيها رحمة، لا يعاينو لي صغير ولا لي كبير، غير الكترة ما عندهم شي، ناس مسافرة، ناس راجعة، ناس مسافرة) وتنفست الصعداء وقالت: ((الله يهون القواسي))
((معليش يا حبوبة))
قالها شاب كان يجلس وعلى فخذيه جهاز تسجيل، تحسست هي آثار سقوط الشنطة على يدها وانفعلت: ((أحسن تمسك شنطتك عليك وتمسك لسانك كمان، عندك نفس تقول لي حبوبه والله مساخر، ما تعاين لي والله اقوم عليك إلا اخليك تتململ فوق جمراً حي، عليكم الله شوفوا محن الزمن ده)).
آثر الشاب السلامة بعد ان رأى في عينيها عنفا يرغب أن يضع لنفسه موضعا.
((ما تتكلم تاني، افتح خشمك تاني عشان احشي ليك تراب، يا خايب الرجال يا ما مربى))
التفت الشاب الى الناحية الاخرى وتحدث الى جاره.
رن الجرس للمرة الثانية
إنها السابعة، لا شيء سوى الضجة المختلطة بالسكون المميت، السابعة مساءً، كانت هذه اللحظة حتى البارحة القريبة مليئة بالعبق، لحظة لها انسيابها دون ادنى متاعب سوى ذلك العبء الحميم الذي يتسرب بين الأنفاس المخترقة لأضواء النيون الخافتة، حركة الكافتيريا تنبض بالحياة، يكون هو قد فرغ من احتساء الشاي بتمهل مفتعل رغبة منه في سجن الزمن داخل نشوته وداخل تلك التفاصيل التي تعامل بها رحاب أناملها، لابد أن الأنامل لها القدرة على الحديث، بل حتى على الصراخ من خلال اللون الذي طليت به الأظافر
((ايديك ما محتاجة لي منكير
ايديك محتاجة لي ايديا))
((انت ليه مصر على القصيدة دي بالذات؟))
((بس اللون الاحمر، اسمعي البيت ده بس، بس، لاحظي بس دي اعتراضية كيف، بس اللون الاحمر، لون حارتنا وكل بيوتا))
((انا افتكر ده اعتراض على الزينة عند المرأة))
((لا، ده اصرار على الزينة، لكن ياتو زينة؟ اسمحي لي اسميها الزينة التلقائية مش الارتفشيل))
((يعني هسه انت معترض على المنكير العاملة انا؟))
((معترض شنو؟ انا منحاز لي اللون ده بالذات))
((انا بفتكر انو صارخ))
((ميزتو انو صارخ، درجات البنفسجي كلها جميلة))
((هيي، الساعة سبعة وربع، انا ماشة الداخلية))
((ماشة تنومي يعني؟ ما نقعد شويه))
((انت ناسي ولا شنو؟، مفروض احضر لي سمنار بكره وما عملت حاجة غير جمع المعلومات))
((لا، كده معليش))
((عندك حق الفول))
((لا، ما خلاص حاتعشي في الداخلية))
((خلاص، هاك اشتري سيجاير))
((ياخوانا، التوليت ما بختوا فيهو عفش))
ارتدت خيالاته، اختناق، عدل وضع رجليه، اليسرى تنمّلت، أحس بأنه مجبر على سفر لم يحن أوانه بعد، يرغب في التدخين، تحسس السيجارة التي قبعت داخل جيبه، تلفت حوله، لكز أحدهم في رجله، نظر الآخر اليه من فوق،
((سفة، ممكن سفة؟))
((أبدا ما بستعمل يا ظريف))
{ دوت صفارة القطار
صليل الحديد حين يحتك بالحديد، الحركة لها فعلها في الناس فالارتياح دب في النفوس، بدأ اهتزاز القطار يتزايد بينما اختلطت أصوات الناس وأفكارهم بإيقاع منسجم مع سيمفونية المعادن الناتجة من حركة القطار، التقت عينان لاحت فيهما معالم مدينة يتناثر فيها الخلق من أحياء يصطخبون وأموات يمشون عليها من زمن يأتي ولا يأتي، مدينة تغلغلت فيها مدارات الانتباه المزمن وارتحالات القلق المميت وجرثومة النزلات المعوية، التقت هذه العينان بعينين جنح فيهما الهدوء ولونت الرغبة فيهما الدفء والخصوبة، أصلحت هي ثوبها، لاحظ هو تنفسها حين نظر الى صدرها الناهد، ابتسم، شكل عينيه بحديث مذاب، حرك فمه بحركة تقول بدون صوت: ((نازلين وين يا سكرة))
أحس بكف ثقيلة على كتفه، رجل ناهز العقد الرابع، نظر اليه بخبث وقال: ((ذوقك جميل))، دهش، ماتت علي لسانه الكلمات، احس بالخوف: ((الحلوين نازلين كوستي))، ضحك الرجل امتد الحديث بينهما، كان الرجل ثرثارا لا يخلو من ظرافة وطرافة، حكي عن مغامراته، دون كيشوت في عقلية دون جوان، اخرج الرجل من جيبه مجموعة من الصور لفتيات اينع الحسن فيهن واختلف وكانت هناك صورة عليها ختم لشفائف حمراء.
{ تك.. تك.. تك
ضربات حادة ومتقطعة
((التذاكر يا جماعة))
تململ الركاب، حاول بعضهم الهروب فنجح وفشل البعض فتكاثرت على جيب الكمساري النقود وقلت على ايدي الركاب الايصالات الصفراء، ايصالات الغرامة:
((انتي يا حاجة تذكرتك))
((تذكرة شنو؟))
((الله يا حاجة، انتي مش راكبة في القطر ده؟))
((آجي يا اخواتي، هسه انت شايفني قاعدة في مقعد؟))
((في مقعد، في الواطة، طايرة، يا حاجة المهم تذكرتك، تذكرتك))
((هي، كدي))
((ماشة وين حاجه؟))
((ودعشانا))
((طيب ودعشانا، تدفعي حكاية......))
((لا بدفع وما عندي))
((ده كلام شنو يا حاجة؟))
((ياهو كلامي وما بزح من هنا شبر))
صمت الكمساري هنيهة، نظر اليها بيأس ثم تحرك للآخرين متخطيا غابة السيقان على الممر.
{ الحصاحيصا
أرق لا تمتصه إلا الحركة، عاد الاختناق بتوقف القطار، تبدو الوقفة أبدية، احتراس، هكذا يقولون، فكر في الخروج واستخدم الشباك كباب رغم ضخامة جسمه، لامست قدماه الارض، رغبة عنيفة أن يطلق ساقيه للريح، تجول في أنحاء المحطة، دار حول القطار بالجهتين، إحساس بالكآبة يشوبه ارتياح جسماني حيث تحرر الجسم من عقاله وقوقعته داخل الممر، تمدد على التراب، حدق في السماء، تململ على جنبه الأيمن، وخزة حادة، إنه الخنجر، لازال في مكانه مثبتا على حزام البنطال، لابد من التسلح داخل فناء الجامعة، أحداث العنف الأخيرة تبعها هوس التسلح، يتذكر الآن، كان يقلب في كتاب تقويم السودان للعام 1945م، كان ممتنا للجهد الذي بذله الريح العيدروس في تقديمه لمعلومات أراد أن يستعين بها في بحثه عن العلاقات المصرية السودانية آنذاك، كان يقرأ بالتحديد عن اتفاقية 1899م: (ولما كان السودان جزءا لا ينفصل عن مصر فإن وجود الجنود البريطانيين في السودان يقوم على نفس الأساس الذي يقوم عليه وجود جنود بريطانيين في مصر نفسها وعلى ذلك فإن الحكم على وجود الجنود البريطانيين في السودان كحكم وجود الجنود البريطانيين في مصر، هذا والخلاف بين الطرفين المصري والبريطاني بشأن السودان قد وصل الى عقدة يقدر كل المراقبين السياسيين بأنها لا تحل بالمفاوضات والرأي المصري.....)
خبط على الباب، ترك الكتابة، فتح الباب، اندفع قدوره يلهث متعبا ((جاطت، خبط تقيل، النور وعبيد في المستشفى))
((المستشفى؟؟))
((النور مطعون، حالتو خطره، عبيد مفلوق، نزف شديد))
((وين الكلام ده؟))
((قدام صناديق الاقتراع، كدي هسه قوم))
((مؤسف، نمشي وين؟))
((اجتماع لازم نستعد))
((حتكون حرابة يعني؟))
((ما معروف، لازم كلو زول يحمي نفسو))
اتفق الاجتماع على ضرورة التسلح الفردي، لم يقتنع بالفكرة تماما، لم يكن ميالا الى العنف، لكن رحاب اجبرته على التسلح واشترت خنجرين، اعطته واحدا وعلى عينيها جسارة وتمرد.
((انتي ما محتاجة لي خنجر يا رحاب))
((برضو؟ زي المنكير))
((عندك سلاح اقوى من كده))
((لا عليك الله اقنعني لامن اروح في شربة مويه))
((عيونك يا رحاب، عيونك اخطر من القاذفات))
((اولا، دي ردة، لإنو ناس الحقيبة قالوها قبلك))
((عارف، جوز عيونو مدافع السواحل))
((ثانيا، دي رومانسية ثورية ساكت))
لا زال الخنجر في مكانه، ربما لأنه من رحاب، البحث عن طوطم متعلق بها، سفر اجباري، هي الى بورتسودان وانا الى الابيض وبين شرق وغرب انهزم الزمن العاطفي امام الزمن السياسي، لم يبق الا التفلسف، الجامعة تقفل ابوابها ولأجل غير مسمى، اخذ نفسا عميقا، جلس، تفحص ارجاء المحطة بنظرة لا مبالية،هب واقفا، دوت صفارة القطار، هرول الركاب، حصل على (سفة) من احدهم، كورها على راحة كفه، وضعها على لثة شفته العليا وبصق مفكرا في امكانية الصعود الى مكانه.
{ السطوح
كان مكتظا بالركاب، منهم من تعود على معانقة النسمات على السطح ومنهم من ضاقت به ذات اليد فلاذ بالسطح هربا من عيون الكمساري وبديلا عن مطاردات الشرطة ومنهم من جعل التسطيح هواية له هربا من الزحمة في الداخل فإذا السطح يضيق وتتلاصق عليه الأجساد.
انتفض أحدهم هاربا لأنه حظي بنظرة قاسية من الشرطي الذي كان يهم بالصعود، ركض مسرعا ليتخطى العربة التي داهمها البوليس، تجمد فجأة بعد أن قابل شرطيا آخر على جانب العربة الثاني، حوصر سطح العربة بشرطيين، اخرج احدهم مسدسه وضخم صوته: ((يا سلام، يا سلام على النسيم العليل، يا الله اتحركوا انزلوا على الحراسة وبدون فوضى)).
اقترب احد الركاب من الشرطي وبعد ممانعات وصلت حد الدلال والغنج، همس له الشرطي واتحه الراكب الى بقية الركاب الذين صاروا حجارة صامتة إلا أن دواخلهم كانت تفكر في المصير، قابل لسان الراكب إذن بقية الركاب:
((شوفوا ليهم حاجة يا جماعة وارتاحوا))
بدأت النقود تتوافد على يد الراكب، جمعها، ناولها للشرطي الذي جال بنظره على الركاب، حولهم سريعا الى ارقام ونظر الى النقود قائلا: ((خلصت منهم كلهم؟))
((كلهم، كلهم يا جنابو))
((بس دي بسيطة))
((معليش، قدر الحال))
((وانت متأكد انو كلهم دفعوا))
((طبعا، متأكد))
((إنت دفعت؟))
((لا، معليش، نسيت))
وأدخل الراكب يدا مرتجفة في جيبه وناول الشرطي ورقة من فئة الخمسة جنيهات وارتاح الركاب على السطح وتعالى شخير بعضهم طاغيا على أحاديث البعض.
{ سنار التقاطع
صراخ حاد، ولولة مكثفة، هرول بعدها الناس الى عربة من عربات النوم، استطاع أحد الأذكياء أن يسرق شنطتين عادت بهما ست النفر من القاهرة، إنها شيلة ابنها حسن الذي اهتدى أخيرا الى الزواج بعد أن اقترب من الأربعين، تفرق الناس مع صفارة القطار، الكل يجري الى مكانه خوفا من أن يضيع.
{ عربة البوفيه
أنزل عمامته على فخذه وخلع نظارته ومسح على رأسه ثم نظر الى عبد القيوم قائلا: ((شوف يا عبد القيوم هي المسألة كلها ما محتاجة غير انك تكون متابع، لأنو المتابعة للأمور البتحصل في السوق بتخليك تضبط استخدام السلعة التجارية، يعني ياتو السلعة ممكن تفكها هسه وياتو صنف ممكن تخزنو دلوكت وبعدين تفهم حاجة مهمة انو ما كل سلعة قابلة للتخزين، يعني في سلع ما ممكن تتخزن اكثر من شهرين وسلعة تانية تستحمل تتخزن لمدة سنة يعني لابد من فهم قوانين التخزين الخاصة بالسلع، انا هسه المخزن بتاعي تقريبا شوالات العيش حوالي عشرة آلاف))
((فتريته؟))
((لا، ابدا، مايو وحانتظر إنتاج هبيلا بإذن الله))
((والله هسه انا مفكر في الزيت))
((ما انا متكل على كوتات التموين، ده طبعا بمساعدة عباس))
((عباس الرسمي، باللاهي، ده راجل مفيد))
واحضر الساعي عشاءً فاخرا، وضع عبد القيوم مسبحته الصغيرة ذات الحبيبات المزركشة اللامعة في جيبه وشمر كم جلابيته السكروتة بعد ان وضع مرفق اليد اليسرى على التربيزة، مصطفى يعلو نفسه حين يأكل مصدرا اصواتا نهمة، قال وفمه مليء بثلاث لحمات وخمشة من الجرير:
((بعد ما اشوف ارباح السنة دي، بعد الجرد طوالي حاكون عريس))
((يا راجل، بعد ده انت عندك نية عرس؟))
((هو البعرس غيرنا منو؟، نحن بس الممكن نعرس وبعدين القروش اصلها ضايعة فاحسن الواحد فينا يستمتع بزينة الحياة الدنيا، ولا شنو؟))
((والعروس؟، نقيتا؟))
وتغير صوت مصطفي الي همس مشحون: ((نازك، نازك بت حسنين، يا دوبك كده في كادوقلي العامة))
((في الثانوية العامة بنات؟))
((يعني حتكون في العامة بنين؟))
وانتشر في عربة البوفيه ضحك متخم وصفيق.
{ كوستي
اختلط ضجيج الباعة والمسافرين، كوستي تلك المدينة ذات الحيوية العالية، كان قد تمدد على الارض مدة ارتاحت فيه عضلاته من التقلص، بعدها اخذ يتجول بين ارجاء المحطة، احس بانتعاش بعد ان شرب كوبين من الشاي على التوالي، الرغبة في المشي ازدادت، تابع خطواته دون هدف، أصوات البوابير من الورشة تختلط برائحة الزيوت القديمة التي تمتزج برائحة السمك، هربت خطواته من الضجة والرائحة بحثا عن نسمة عليلة، أدخل يده في جيبه، أخرج سيجارة من العلبة التي اشتراها في المحطة، اتجه صوب شجرة نيم ظليلة تقابل شارع الأسفلت المجاور للمحطة، جلس تحتها وأشعل سيجارته، أخذ نفسا عميقا وهو يتابع عربات الكارو واللواري والعربات الصغيرة وعربات التاكسي البيضاء وهي تخرج أو تتوغل داخل المدينة، أحس بوخز الخنجر على جنبه، قفزت الى ذهنه الهراوات والدماء التي سالت، عدل من وضع الخنجر، إنها رحاب تلك المتمردة الجميلة، إنها تتجلى لي من خلال هذا الخنجر، تتعمق صورا في داخلي، كلما أحس بالخنجر أشك في أنني أصبحت طوطميا، ترى هل كانت محقة حين اشترته لي؟
((الخنجر معاك؟))
((خليتو في الداخلية))
((ليه يعني؟، تقيل؟، ما بتقدر تشيلو معاك؟))
((رحاب، ما ضروري كل يوم الواحد يشيل معاهو خنجر، يعني بس....))
((بطل التنظير الكثير وحقو ترجع الداخلية تجيبو))
((رحاب، ما ضروري))
((شنو الما ضروري، ممكن تحصل اي كعة))
((نحن وين؟، في تكساس؟))
((في تكساس، في الفسطاط، المهم لازم تكون مسلح))
((رحاب، انتي خايفة علي؟))
((عليك الله بطل الرومانسية بتاعتك دي وارجع الداخلية))
((انت مدياني فرصة اكون رومانسي؟))
((يا ود خليك قدر الموقف))
((طيب، القاك وين؟))
((في الكافتيريا، طبعا))
لا ادري كيف اصبح الخنجر مألوفا لدي؟، رحاب لديها القدرة على جعل كل الاشياء تبدو أليفة ومنسجمة، حتى السلاح، قدرة متميزة في التعامل مع الأشياء، كل الأشياء، أنا مصر على أنها تستطيع أن تكون مركزا لكل الكون، يبدو أنني أعطيها مميزات خارقة، طبعا إنه الحب، الحب يفعل العجائب.
صفارة طويلة، ركض مسرعا نحو القطار.
{ الغبشة
تناثر الركاب على الأرض، رمال ناعمة ومغرية للنوم خاصة أن كثرة الأمطار في المحطات القادمة أوقفت القطار.
((اطعن بي هنا))
تجمع بعضهم يلعبون (الضالة)
((خلي يطعن هنا وانت اطعن هناك))
((انت راجل راك، هنا))
وجاءت صرخة جميلة:
((ايوه الشاي
الشاي السخن يا))
وتحول الصوت الى غناء مبحوح:
((الشاي جميل
هبهانو تقيل
ومويتو من النيل))
ودوت صفارة القطار فاهتزت جوانب بائع الشاي وبصق (السفة) بعد أن وضع براده على الأرض:
((الله يلعنك يا الشوم))
داعبه أحد الركاب وهو يركض: ((معليش يا عمو المره الجايه))
{ الدرجة الثانية الممتازة
كانت هناك على الممر الذي هو فيه يدان تعبثان بنهدين لم يتذوقا اللمس بعد، وتضايقت الصبية وقالت بصوت احتواه الأنين: ((يمه، يمه، القاعد معاك فوق الكرتونه منو؟))
((يا مني مالك؟))، ردت الوالدة التي كانت قرب التوليت
((الحته دي ضيقة يمه))، قالت مني والأنين لا زال في صوتها، قام صاحب اليدين العابثتين من شنطته التي شاركته فيها الصبية الجلوس وقال بصوت مرتبك: ((طيب، ارتاحي كويس))
((لا، لا)) قالت منى بغضب.
ومن بعد بعيد قالت والدة منى: ((يا منى مالك يا بت، يا حماد، شوف اختك مالا))
((اقعدي خلاص)) قال صاحب اليدين العابثتين وانفجرت منى: ((ما تتكلم معاي يا وسخ يا صعلوك))
وتدخل حماد بعد أن فهم من عيون اخته ما الذي حدث وصفع صاحب اليدين العابثتين واشتبكا حتى أن المسافة الضيقة في الممر صارت أوسع على بقية الركاب. عاد هو من أفكاره المتشعبة ليراقب الموقف الذي يحدث الآن، صرخة حادة من أحد المشتبكين وارتطم جسمه بأرضية الممر بينما وقف حماد وفي يده سكين تسيل منها الدماء، تلطخت أرضية الممر بالدماء وتجمهر الركاب وأحس هو بالغثيان والدوار، انتابته رغبة عنيفة للانفلات من هذا المكان، تجمدت أفكاره على شيء واحد هو الخنجر، تحسسه جيدا، أخرجه من مكانه، الاشتباكات أمام صناديق الاقتراع، السكين في يد حماد، عصي من السيخ، عيون رحاب المتمردة، الخنجر في يده، شعارات انتخابات الجامعة، الدماء على الممر، القطار يبطئ السرعة، الخنجر في يده، أخرج رأسه من الشباك، بدأت ملامح المحطة تبدو، الغثيان، الدوار، ضجة الركاب، الدماء على الممر، القطار يبطئ السرعة، شعارات الانتخابات، ضحكة رحاب الساخرة، الخنجر في يده، رأسه يطل من الشباك، الرمال بدأت تنمو عليها الخضرة، صبية وأطفال يركضون، يسألون القطار خبزا.. غثيان، دوار، قذف بالخنجر، انغرز على الرمال التي بدأت الخضرة تنمو عليها، تسابق الأطفال نحو الخنجر يحسبونه خبزا واستطاعت صبية أن تفوز به لكبر سنها ولخفتها. أخذت الخنجر واتجهت نحو القرية وهي تصرخ:
((يُمّه، يُمّه
البشارة
البشارة
يُمّه
البشارة))
وابتسم هو من خلال دموعه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.