حاج الماحي صمد ساقية المديح النبوي الشعبي السوداني، عماد تجربته الشعرية أنه قد ظل في خروج دائم على المألوف في التناول، وذلك ما ميَّز لونيته التي اتسمت بعمق الفكرة وببساطة العبارة وحرارة الإيقاع وبانسياب الألحان.. هذا فضلاً عن ملكته البارعة في استلهام مضامين السيرة وسودنتها بخطاب عامي مبدع. ومن شواهد تميُّزه بين من تميزوا في هذا المجال، إنه قرع أبواب جوانب لم يطرقها من كانوا في مستوى العلماء والمتعلمين المهرة من رصفائه وممن سبقوه أو من عاصروه ومن أعقبوه وقد تصعب بعض تناولاته على بعض المتعلمين!! فما أبرعه وأروعه وهو يتناول الاجتباء الرباني للنبي الأمي عليه الصلاة والسلام وفي ذلك ما ورد في مدحته (النور وغاية) فيقول عن ذلك: الأمي ما عمر الدواية وما كتب حروف هجاية وعلمو من عالم الخفايا ممجد السر قوي التلاية وجنانو سالم من الرباية ففي تعليق لسؤال وجهته لحفيده مولانا أحمد المجذوب حاج الماحي المحامي من خلال محاورة إذاعية أجريتها معه، محورها أننا وحين نمعن النظر في قول حاج الماحي آنف الذكر وغيره لعلنا نخلص من هذه المعاني الرفيعة لنفكر في كيف جاءت من رجل أمي.. هو حاج الماحي وماهية نبوغه والتوازن المتلازم والقائم في طرحه هذا في قنوات استقباله ووسائط إرساله الشعوري!! قال لي مولانا أحمد المجذوب حاج الماحي المحامي، نعم أوافقكم فهو كذلك كما تفضلتم بذلك.. فالأمية ليست شيئاً يمنع التعلم فقد أثبت في قوله الآنف ما هو ثابت أزلاً: من أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو (الأمي الما عمر الدواية) ثم جاء حاج الماحي ليؤكد أنه قد علمه شديد القوى ذلك حين قال (ممجد السر قوي التلاية) ونخرج من ذلك بحقيقة تُوقفنا على قناعة ملؤها اليقين المحض من أن هذه معانٍ دقيقة ليس من اليسير تناولها بهذه الصورة إلا لمن أوتي الحكمة ومنتهى الغرابة التي هي ليست بمستغربة في أحوال وأقوال القوم. هذا الإتقان وتلكم البراعة سيما وأن مثال ما ذهب إليه حاج الماحي الأمي، لهو مثال قد يصعب على الكثير من دارسي الكتب!! ولكون الشعر مرقى عاليًا سلمه ومثار الدهشة حيال ذلك.. أن كيف استطاع هذا الأمي ذلك!! إذ لم يقف على اصطياد ومعرفة تلك المعاني فحسب. وإنما تمكن وبمهارة أن يصوغها في شعر رائع!!. مما تقدم تتجلى لنا حقيقة أن الأمية لم تقف حائلاً دون بلوغ حاج الماحي هذه الدرجة العالية بين شعراء المديح والسودان بعامة فكان في طلب للمعرفة أتاحتها له صلته القوية بالعلماء وأهل القرآن والصوفية فيا طالما نهل من معين أذكار وأوراد ومجالس اشياخه في الطريقة الإدريسية وقد خص شيخه السيد أحمد ابن إدريس بصفة (ابن إدريس شيخنا النوارني) وقد قال في طلب العلم بالإلهام والتلقي بالتلقين علمني يا عليم من علومك علي وهبا وارزقنا التقوى والمحبة ومن قبله في طلب العلم النافع قال ريحانة شعراء المديح النبوي الشيخ العالم العارف.. حاج العاقب من بعدُ روح المدعى وقل يا سميعاً للدعا عظم لقدري وأرفعا وعلمني علماً نافعا جاء ذلك في مدحة حاج العاقب (الحمد لله وكفى يا نعمة حرم المصطفى). ولعل حاج الماحي يكون ولعله من المؤكد بشواهد الحال والمقال يكون قد استقى ذلك العطاء الإبداعي العارف من مجالس العلم الجالسة والمتحركة في دارات العلم والإرشاد وبين ثنايا المديح النبوي في أمداح من سبقوه وعاصروه مع قناعة استظهرها هؤلاء الدعاة في سيرهم على طريق الرجعى إلى الله بمنظور (واتقوا الله ويعلمكم الله). ومما يقرأ من خلال ذلك أن حاج الماحي بخاصة، قد تخصص بين شعراء المديح وبتركيز شديد في إبراز جوانب من لونية العلم ومثالها الأكمل في التلقيات اللدنية. موحى أشواق العاشقين في هذه الساحات الصادقة بمدح شمائله عليه الصلاة والسلام (من أدبه ربه فأحسن تأديبه) ولعل حاج الماحي يكون أمام مقام الاجتباء السامي هذا.. وهو مستغرق بمقام (علمه شديد القوى) فقال ما نختم به ويمهد به للحلقة القادمة إن شاء الله (فوق شيخ ما قرأ وما عاد ومتعلم من المجّاد).