اطّلعت على نسخة أنيقة، متوسطة الحجم لديوان الإمام علي رضي الله عنه، حققها «مركز البيان العلمي » بجمهورية مصر العربية، فأدهشتني وكستني حيرة، وتركت أمامي أسئلة صعبة. فالنسخة كما ذكر المركز مُحقَّقة، ولكنها في الواقع بعيدة كل البُعد عن التحقيق، وأهدافه الواضحة، والتي تتمثل في تجلي الحقائق بتصديقها أو تكذيبها، وذلك بالرجوع إلى مصادرها وتتبُّع مناهل منابعها. وبالرغم من أني غير مختص في لغة الضاد ونقدها، إلا أنني ومن خلال ما تجرعته من فنون العربية وأبجديات لغة الشعر، وجدتُ أن هناك أشياء عامة يجب التوقف عندها في حالة إصدار دواوين الشعر أو تحقيقها، كما أن هناك فرقًا بين التحقيق والنقد الأدبي. فالنسخة التي يدَّعي المركز تحقيقها، فيها كثير من الأغلاط ولي فيها بعض الملاحظات أقدم نماذج منها في النقاط التالية: أولاً: بالرغم ن فخامة ورق النسخة وأناقة غلافها، إلا أنها تفتقر إلى التعريف بشاعرها رضي الله عنه، ولا تشير إلى سيرته الذاتية، ولا إلى خلافته ومكانته في الإسلام، وذلك في اعتقاد المركز أن الإمام علي معروف ولا يحتاج إلى تعريف، وهذا الاعتقاد غير صحيح، لأن الديوان يقرأه المسلم الملم بتاريخ الإمام وغير المسلم، بل هناك من المسلمين «بالفطرة» من يدرس حتى الجامعة ولم يمر بدرس تفصيلي لسيرة الإمام علي، خاصة في عصرنا هذا الذي ابتعد الناس فيه عن الكتب والمكتبة، وأدمنوا الفضائيات والمسلسلات. ثانياً: مقدمة الديوان التي خطها المركز، مُربكة ومشككة في بعض الأبيات الشعرية دون أن تبيِّن مرجعيتها، أو تقدِّم برهاناً ساطعاً على نفيها عن الإمام علي، وليس هناك أية إشارة إلى الشاعر الذي يُرجَّح أنه قالها. ويقيني أن هذا عيب كبير في التحقيق، أن تثبت معلومة أو تنفيها دون الإشارة إلى مصدرك أو مرجعك الذي اعتمدت عليه، فمثلاً نجد في مقدمة الديوان ملاحظات دون الإشارة إلى مصادرها وفيها حكم مسبق تخالفه قصائد الديوان. تقول المقدمة: «تنتشر في بعض أبيات الديوان روح الفخر الشخصي وتعديد الأمجاد، خاصة قتله لعمرو بن عبد ود، وليس ذلك من أخلاق الإمام علي، ولم نعرفه عن أحد من الصحابة». وكذلك تقول «... الصور الفنية والمحسنات البديعية نادرة جداًً تقترب من حد العدم، وهو لا يليق ببلاغة الإمام وفصاحته» ثم يأتي المحقِّق بكمية من الأبيات التي يشيد فيها بفصاحة الإمام وبلاغته ويقول هذه من سجيَّة الإمام.. فعلى سبيل المثال يورد في صفحة «109» الأبيات التالية: النفس تبكي على الدنيا وقد علمت * أن السلامة فيها ترك ما فيها لا دار للمرء بعد الموت يسكنها * إلا التي كان قبل الموت بانيها فإن بناها بخير طاب مسكنها * وإن بناها بشر خاب بانيها وتستمر الأبيات إلى أن تصل لكل نفس وإن كانت على وجل * من المنيَّة آمال تقوِّيها فالمرء يبسطها والدهر يقبضها * والنفس تنشرها والموت يطويها ويعلق عليها في تناقض قائلاً «هذه الأبيات من بحر البسيط وهي جيّدة السبك، وتنم عن شاعرية، لا تظهر في الديوان إلا نادراً، وفي البيت الأخير «لم أورده» مقابلات وهي إحدى المحسنات البديعية الجميلة» كذلك يقول في صفحة «39 » في شرح بيت الشعر التالي وابغض إذا أبغضت بغضاً مقارباً * فإنك لا تدري متى أنت راجعُ يقول المحقق: البيت يحمل معنى حكمة قالها الإمام علي «أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وابغض بغيضك هونًا ما عسى أن يكون حبيبك يوم ما»، وهي تعبِّر عن حصافة الإمام المعهودة عنه، وموضوعيته في تناول الأشياء، أضف إلى ذلك سبكها الفني أجمل.. إلخ فما هذا التناقض؟ وتضيف المقدمة قائلةً: «لقبيلة همدان حظ وافر من هذه المدائح وإني لأرى أنها قيلت على ألسنة تلك القبائل، وهذه البطون والأقوام ثم نُسبت إلى الإمام علي لجلب الفخر لأنفسهم بأن الإمام مدحهم». ولم يبن المحقق على ماذا اعتمد في نفيه لمدح القبائل، ولم يرجح الشاعر الذي قالها أو الجهة التي تُنسب إليها. أقول بكل تواضع إن الديوان يحتاج إلى مزيد من التحقيق والتدقيق الشعري والديني خاصة وأنه لإمام جليل وشاب مسلم ثائر، له مواقف بطولية في الإسلام يحتذي بها كل مسلم قرّ الإسلام في قلبه، ورمز للتضحية والفداء ويكفي نومه في فراش النبي صلى الله عليه وسلم، ليلة الهجرة والتي خلدها شعراً وقيتُ بنفسي خير من وطئ الحصى * ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر محمدُ لما خاف أن يمكروا به * فوقّاه ربي ذو الجلال من المكر وبتُّ أراعيهم متى ينثرونني * وقد وطَّنتُ نفسي على القتل والأسر وبات رسول الله في الغار آمناً * هناك وفي حفظ الإله وفي ستر أقام ثلاثاً ثم زمت قلائص * يفرين الحصى أينما يفري أردت به نصر الإله تبتلاً * وأضمرته حتى أتوسد في قبري