يكاد كثير من الباحثين يجزمون بأن الإسلام اتخذ منذ البداية موقفاً حذراً من الشعر أدى إلى إطفاء جذوته المشتعلة قبل الإسلام وإلى ضعف مستواه, وكان أول من أشار إلى ذلك الأصمعي في قولته المشهورة (الشعر نكد يقوى في الشر فإذا دخل في الخير لان وضعف). وقد ضرب مثلا على ذلك بشعر حسان بن ثابت الذي وصف بأنه كان في الجاهلية من الفحول، ولما دخل الإسلام سقط شعره، فالأصمعي ينظر إلى مصدر الشعر الخير أو الشر وهو يقرن الشعر الجيد بالشر (لأن الشر عنده هو صورة للنشاط الدنيوي جميعه والشعر ينبع من ذلك النشاط). ومن النقاد القدامى الذين وافقوا الأصمعي؛ محمد بن سلام الجمحي الذي يقول: "فجاء الإسلام وتشاغلت عن الشعر العرب، وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم ولهت عن الشعر وروايته. وعزز هذا الرأي في النقد القديم ابن خلدون في مقدمته حيث ذكر (أن الشعر كان ديواناً للعرب في علومهم وأخبارهم وحكمهم, ثم انصرف العرب عن ذلك أول الإسلام بما شغلهم من أمر الدين والنبوة والوحي، وما أدهشهم من أسلوب القرآن ونظمه فأخرسوا عن ذلك وسكتوا عن الخوض في النظم والنثر زماناً). ومعنى هذا أن المسلمين قد انصرفوا عن قول الشعر ونظمه، بينما ظل المشركون ينظمون الأشعار، ومع ذلك لم يتعرض النقاد لشعرهم من حيث القوة والضعف, وما روى في كتب الأدب يدل على غير ما ذهب إليه النقاد القدماء، فقد كان عدد من الشعراء أمثال حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك؛ يدافعون عن الرسول والرسالة ويصدون هجوم شعراء قريش, كما أن الوفود كانت تأتي بشعرائها وخطبائه،ا ولا شك أن شعراً غزيراً قيل آنذاك وأن الرواة لم يدونوه فضاع معظمه لانشغال الناس بغير رواية الشعر وتدوينه. وقد تابع هذه الآراء عدد من الباحثين المحدثين أمثال جرجي زيدان الذي يقول: "فلما جاء الإسلام وجمع كلمة العرب, وذهبت العصبية الجاهلية لم تبق الحاجة إلى الشعر والشعراء؛ باشتغال أهل المواهب والقرائح بالحروب في الجهاد لنشر الإسلام وبالأسفار، وقد أدهشتهم أساليب القرآن وأخذتهم النبوة وانصرفت قرائحهم الشعرية إلى الخطابة لحاجتهم إليها في استنهاض الهمم وتحريك الخواطر للجهاد". فالكاتب يرجع قوة الشعر وازدهاره إلى العصبية والنزاع بين القبائل، وهذا يخالف ما عرف عن العرب بأن الشعر ديوانهم وتاريخهم وحياتهم، فحاجتهم إليه دائمة، ثم إن الشعر في مفهوم الإسلام وسيلة من وسائل الجهاد ونشر الدعوة، فحاجتهم إليه أشد، وهذا ما يدعوهم إلى الانشغال به أكثر من الاشتغال عنه ، ولكي يفهموا أساليب القرآن التي أدهشتهم فإنهم بحاجة إلى الشعر لأنه وسيلتهم إلى تذوق تلك الأساليب ومعرفة وجوه الإعجاز والجمال فيه، ثم ما الذي يجعل الحاجة إلى الخطابة أشد من الحاجة إلى الشعر، مع أن أثر الشعر في تحريك الخواطر وإثارة المشاعر واستنهاض الهمم أقوى من الخطابة عند العربي، وأكثر آراء المحدثين إجحافاً في حق شعر صدر الإسلام؛ وما جاء في دراسة الشعر في صدر الإسلام ما ذكره الدكتور شكري فيصل في قوله: "إن شعر صدر الإسلام هو النهاية الضعيفة الذابلة والمنحرفة للشعر الجاهلي وهو يمثل عقابيل المعركة بين الحياة الإسلامية وبين الحياة الجاهلية ... فأما الشعراء الذين ظلوا يقولون الشعر فقد كانوا يحاولون الصحوة من أثر الدهشة التي جابههم بها إعجاز القرآن كما كانوا يحاولون التكيف مع هذه الحياة الجديدة والانسياق في مفاهيمها .. ولهذا جاء شعرهم هذا الشعر المتراكب من القيم الجاهلية والإسلامية على السواء. إننا نجد شواهد ذلك كله في دراسة شعراء هذا العصر .. وليس أدل على ذبول الشعر من أننا لا نرى هنا ما كنا نرى مع العصر الجاهلي .. إننا لا نجد بين شعراء هذه الفترة شاعراً في فحولة طرفة أو إبداع امرئ القيس أو ترانيم عنترة أو كياسة النابغة". ومثل هذه الآراء تدل على قبول الافتراضات التي وضعها الأصمعي وتبعه فيها عدد من النقاد دون دراسة متأنية للشعر في صدر الإسلام، دراسة تشمله وتشمل الظروف التي أحاطت به وأول ما يخطر في الذهن المقارنة بين الشعر الجاهلي الذي وصل إلينا ناضجاً قويا ممثلا لأكثر من قرن ونصف من الزمان، وبين شعر صدر الإسلام الذي لم يتجاوز ربع قرن من الزمان، ومع ذلك فقد روى شعر كثير من هذه الفترة مما قاله المسلمون أو المشركون، ووجد عدد كبير من الشعراء الذين دافعوا عن الإسلام، ومثّل هؤلاء الشعراء تياراً إسلامياً قوياً التزم بالإسلام وأضاف كثير إلى الشعر من حيث مضمونه وموضوعاته وألفاظه ومعانيه، غير أنهم حولوا جزالة الأسلوب الجاهلي وبداوته إلى أساليب بسيطة وألفاظ رقيقة ومعانٍ هادفة تتناسب مع روح الإسلام وتعاليمه؛ الداعية إلى هجر الفاحش من القول والبذئ من اللفظ وهتك الأعراض وذم الأبرياء، ومع ذلك لم تخل هذه الفترة الوجيزة من شعراء وصفهم ابن سلام نفسه بأنهم من الفحول، أمثال أبي ذؤيب الهذلي الذي قال عنه: "كان أبو ذؤيب شاعراً فحلاً لا غميزة فيه ولا وهن.. وسئل حسان: من أشعر الناس؟ قال: أشعر الناس حياً هذيل وأشعرُ هذيل أبو ذؤيب غير مدافع" وكذلك كعب بن زهير كان شاعراً فحلا مكثراً مجيداً قال عنه خلف الأحمر (لولا أبيات لزهير أكبرها الناس لقلت إن كعباً أشعر منه). إن اتهام عدد من الشعراء المخضرمين بذبول شعرهم بعد الإسلام؛ لا يستند إلى حقيقة علمية إنما هو افتراض لا يرقى لمرحلة الجزم، فقد ظل كثير من هؤلاء الشعراء ينظمون الشعر من أمثال لبيد وحسان والحطيئة والنابغة الجعدي وأبي ذؤيب الهذلي والنمر بن تولب وكعب بن زهير وكعب بن مالك الأنصاري, ولعل بعض الشعراء قد انشغل بحياته الجديدة عن الشعر، إلا أن مجموعهم ظل ينظم الشعر، حتى لبيد بن ربيعة الذي تضاربت الآراء في قوله بعد الإسلام فقد نسب له أنه لم يقل غير بيت من الشعر بعد إسلامه وهذا البيت نفسه موضع خلاف فقد ذكر ابن قتيبة في الشعر والشعراء أنه قال: ما عاتب المرء الكريم كنفسه =والمرء يصلحه الجليس الصالح بينما أورد له صاحب الأغاني قوله : ألا كل شيء ما خلا الله باطل =وكل نعيم لا محالة زائل ويذكر الرواة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعجب بهذا البيت وهو من قصيدة قالها بعد إسلامه ومطلعها : ألا يسألان المرء ماذا يحاول =أنحب فيقضي أم ضلال وباطل بل روى صاحب الأغاني أن لبيداً لم يترك الشعر طوال حياته، فأورد له أبياتاً قالها في السبعين ثم التسعين ثم المائة وبعد المائة، ومعنى هذا أن قريحته لم تخمد وظلت متقدة حتى وفاته. حين أوصى ابن أخيه بإحسان دفنه شعراً، وكذلك ما قاله في وصف حال بناته بعد موته : تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما =وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر وكما يقول الدكتور شوقي ضيف فإن الشعر في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كان يجري على كل لسان ، ويكفي أن نرجع لسيرة ابن هشام ، فسنرى سيولاً تتدافع من كل جانب، وحقاً فيها شعر موضوع كثير ، ولكن حينما يصفى، وحين نقابل عليه ما ارتضاه ابن سلام وغيره من الرواة الموثوق بهم ، نجدنا إزاء ملحمة ضخمة تعاون في صنعها عشرات من الشعراء أو الشاعرات)9 ومع كثرة هذا الشعر وتفاوت درجات قوته ، فإنه كان متعدد البيئات في المجتمع الإسلامي نفسه، حيث نجد شعراء المهاجرين وشعراء الأنصار وشعراء مكةوالطائف والقرى اليهودية المحيطة بالمدينة، وشعراء البادية في كل بيئة من هذه البيئات ، عدد من الشعراء يتفاوتون في درجات شعرهم غير أنهم جميعاً يمثلون من الناحية الفكرية العقائدية معسكرين مختلفين، معسكر المسلمين ومعسكر المشركين . فقد كان شعراء المسلمين من الأنصار والمهاجرين ينظمون شعراً يمتاز بالجودة والأصالة، ويستجيب لآداب الإسلام ومبادئه ، ويعبر عن قاموسهم اللغوي، من المعاني الجديدة التي أضفاها الإسلام على كثير من المفردات مهتدين بتوجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم في التعبير عن الوجه الإسلامي الجديد ، الذي يطمح إلى الشهادة ويفخر بالجهاد والانتصار على أعداء الله ، ويبحث عن الجزاء في الآخرة لا في الدنيا ، وكل ذلك في إطار أسلوبي جديد يتميز باليسر والسهولة والوضوح، بعيداً عن التكلف المبالغة والتقصير والفحش ، وهذا ما جعل بعض النقاد يصف هذا الشعر باللين والضعف، فهذا المضمون الجديد لا بد له من إطار جديد يتناسب معه ويعززه ، ولم يقف شعراء المسلمين عند ذلك ، بل أحدثوا تغييراً أيضاً في مضمون الفنون الشعرية ، وكان شعر الرثاء أكثر الفنون ، خاصة في رثاء حمزة ورثاء الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن الرثاء تفجعاً ونحيباً وسخطاً ، بل كان حزناً وألماً ودعوة إلى نشر الإسلام والشهادة في سبيله وابتغاء ثواب الله في الآخرة، فالرثاء قد ارتبط بأهداف سامية وغايات يسعى إليها، ولم يقتصر دور الشعر الإسلامي على المدن الرئيسية ، بل تغلغل في البادية، حيث وجد فيها عدد من الشعراء الذين ظهر أثر الإسلام واضحاً في شعرهم من أمثال لبيد بن ربيعة والنابغة الجعدي الذي يقول : الحمد لله لا شريك له =من لم يقلها فنفسه ظلما المولج الليل في النهار وفي =الليل نهاراً يفرج الظلما الخافض الرافع السماء على =الأرض ولم يبن تحتها دعما وقد دخل أغلبهم في الإسلام وشارك في الدفاع عنه بسيفه ولسانه وقد ظهر شعرهم بغزارته في الفتوحات الإسلامية في عهد الراشدين. أما معسكر المشركين فقد قادة شعراء مكةوالطائف والقرى اليهودية، ومع أن شعراء مكة من المسلمين قد نافحوا عن دينهم ، فإن نفراً منهم قد عُرف بعدائه للإسلام وقتاله ضد المسلمين وتعصبه لموروثاته وأوثانه وعادات آبائه، من أمثال عبد الله بن الزبعري الذي كان شديد الهجاء للمسلمين كثير التحريض للمشركين عليهم، وقد أسلم بعد فتح مكة، وهو من الشعراء المبدعين في عصره ، اعتبره ابن سلام من أبرع شعراء، وقد كان لشعراء مكة شعر غزير في رثاء قتلى المشركين ببدر، حتى من النساء الشواعر اللائي يحرصن على قتال المسلمين، ولم يكن شعراء الطائف أقل عداء للمسلمين من شعراء مكة، من أمثال أمية بن أبي الصلت، الذي رثا قتلى بدر من المشركين، وحرض ثقيفاً على قتال الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأبي محجن الثقفي الذي أسلم ومات مجاهداً أيام سيدنا عثمان . أما أكثر الناس عداء للرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين؛ فقد كان شعراء اليهود أمثال كعب بن الأشرف، الذي كان أشدهم عداء وأكثرهم هجاء للمسلمين والذي شبب بنساء الرسول صلى الله عليه وسلم ، وحرض المشركين على قتال المسلمين . فالشعر الذي قيل من المسلمين أو المشركين المعارضين لهم، هو الذي يمثل صورة الشعر في صدر الإسلام، وقد ضاع أغلب هذا الشعر المعارض لعدم اهتمام الرواة به لأنه مخالف للتوجه الإسلامي الجديد، ولأن المسلمين لن يشغلوا أنفسهم بشعر قيل في هجائهم ومعاداة نبيهم ورفض دينهم . بل إن شعر كثير من المسلمين الذين وردت أشعارهم في كتب السيرة وطبقات الصحابة، لم تجد اهتماماً وعرضاً في كتب الأدب العربي القديمة المعتمدة ، وهذا الشعر بضخامته يشكل جزءاً كبيراً من الشعر الإسلامي في صدر الإسلام، ينفي مقولة ضعف الشعر وقلته في هذا الفترة الخصبة من حياة المسلمين ودعوتهم . وثمة نقطة نبه إليها الدكتور عبد القادر القط في دراسته للشعر الإسلامي، ويرى أن كثيراً من الدارسين يغفلونها تماماً وهي : (أن الضعف الذي لاحظناه على الشعر الإسلامي(إذا سلمنا برأيه) كان قد بدأ في الحقيقة قبيل الإسلام لا بعده، كان قد انقضى عهد الفحولة ولم يبق منهم إلا الأعشى الذي مات - كما تقول الرواية وهو طريقة إلى النبي ليمدحه ويعلن إسلامه ، ولبيد الذي كان قد بلغ الستين وأوشك أن يكف عن قول الشعر، ولم يبق عند ظهور الإسلام إلا شعراء مقلون بعضهم مجيد في قصائد مفرده، ولكنهم لا يبلغون شأو هؤلاء الفحول ).[1] فهو يرى أن الشعراء قبيل الإسلام قد أسهموا بنصيب وافر في إيجاد الشعور القومي وتأصيل القيم الأخلاقية والاجتماعية لنشأة أمة متماسكة، والتمكين للغة العربية لتسود على لهجات العرب كلها "وكأنما فرغ هؤلاء الفحول من تلك الرسالة الحضارية قبيل الإسلام، فانقضى جيلهم وظل المجتمع العربي بضع سنوات ينتظر رسالة من نوع جديد تحقق للعرب تلك الوحدة التي كانت كثيراً من مظاهر الحياة في الجزيرة العربية تنبئ بها، ويستخدم تلك اللغة التي مكن لها هؤلاء الشعراء في الأرض لكي تحمل قيمها الروحية والحضارية الجديدة . وكان لا بد أن تمضى سنين أخرى في ظل الإسلام حتى ينشأ جيل جديد تربي في تلك البيئة الحضارية الجديدة، بعد أن تبلورت سماتها واستقرت قيمها وتجاوزت مرحلة الانتقال إلى مرحلة الأصالة" [2] إذن هناك مرحلة انتقل فيها الشعر من الجاهلية إلى الإسلام، وإذا نظرنا إلى عظم التحول الذي يحدث في الحياة العربية نجد أن المرحلة الانتقالية لم تستغرق وقتاً طويلاً؛ إذا ما قيس بعظم التحول، حيث أن الشعراء المخضرمين سرعان ما استوعبوا الحياة الجديدة، وتعرفوا أسلوب القرآن المعجز وتأثروا بالمعاني والأفكار التي جاء بها الإسلام، غير أن درجات التكيف قد تفاوتت بالنسبة للشعراء، فمنهم من دخل الإسلام فيهم وامتزج بنفوسهم ومشاعرهم، فتطابقت أفكارهم مع النظرة الإسلامية وتكيفوا مع الحياة الجديدة. كما هو حسان بن ثابت، ومنهم من دخلوا في الإسلام، غير أن الإسلام لم يدخل نفوسهم ولم يتعمق مشاعرهم، فظلوا على جاهليتهم يتأرجحون يبن الأهواء المتعلقة في نفوسهم والحياة الجديدة التي لم يتكيفوا معها بالدرجة المطلوبة، فعبروا عن هذه الأهواء، كما نرى في شعر الحطيئة؛ الذي مدح وهجا وتكسب بشعره مما لم يجعل لشعره في الإسلام اختلافاً عن شعره في الجاهلية، غير أبيات قليلة استعفى بها سيدنا عمر بن الخطاب لإخراجه من السجن، وبعض أبيات في المدح والحكمة، فهو لم يتأثر بروح الإسلام وأسلوب القرآن، فظل شعره في الإسلام امتداداً لشعره في الجاهلية ، فالشعراء اختلفوا في استجابتهم، فبعضهم كان بعيداً عن الحياة الجديدة فلم يعبر عن تجارب جديدة، وكان امتداداً للشعر الجاهلي برصيده ونماذجه، بينما شارك بعض الشعراء في الدعوة إلى الإسلام ونصرته، وعبروا عن الحياة الإسلامية الجديدة بفكرها وعلاقاتها وأخلاقها، وكان شعرهم خليطاً من الجاهلية والإسلام، لصعوبة التخلص من الآثار الجاهلية في مرحلة وجيزة "والصورة العامة للشعر في الإسلام تقوم على حقيقة حضارية معروفة هي أن هناك بالضرورة تداخلاً في فترات التاريخ الحاسمة، وأنه لا يمكن أن يكون هناك حد فاصل بين فترة والتي تليها، وبخاصة حين يتصل الأمر بمقومات نفسية بعيدة الغور في نفوس أصحابها، أو بقيم فنية أصبحت تقاليد موروثة لا يمكن الخلاص منها فجأة؛ أو الاهتداء إلى غيرها من قيم جديدة على اختلاف في المظهر والدرجة " [3] إن الحديث عن نظرة الإسلام للشعر؛ جعلت كثيراً من الباحثين يغفلون عن جانب هام في هذا المجال، حيث ركزوا على موقف الإسلام من الهجاء والفخر الجاهلي والتعرض للأعراض، ولم يشيروا إلى نظرة الإسلام للجانب العاطفي في حياة الإنسان، وهو جانب مهم لم يهمله الإسلام أو يحتقره، بل عمل على استثارته وجعله قوة دافعة نحو الحياة الخيرة والعمل الصالح ، فالإسلام ينظر إلى الإنسان باعتباره طاقة من الغرائز والميول والأهواء والحاجات، فركز على السمو بها وتهذيبهاوتوجيههاالوجهة التي تحقق الغاية من وجودها في النفس الإنسانية، فالشاعر الجاهلي عندما يتناول عاطفة الحب؛ إنما يتناولها من حيث المظهر الخارجي، بينما يتناولها الشاعر المسلم بتعمق، وتأمل فالإسلام يبارك هذه العاطفة على المستوى الفردي، باعتبارها الإطار الاجتماعي للحياة الفردية، التي لا تتجاوز مقدسات الجماعة وحقوقها ، كما أن الإسلام لم يقصر هذه العاطفة على المرأة وحدها، بل جعلها تعم مجالات أخرى في المجتمع، إذ أن تركيز هذه العاطفة نحو شيء واحد: المرأة والمال أو الحرب ، إنما يدمر المجتمع ويسقطه ، إن النشاط النفسي للإنسان لا يمكن توجيهه نحو عاطفة واحدة، فالنفس الإنسانية تعج بالعواطف المختلفة كالحب لله والحب للناس والإخاء بين المسلمين؛ الذين يمثلون الجسد الواحد، وحب الجهاد وغير ذلك، فالإسلام يوجه عاطفة الحب في صورة متكاملة نحو التنويع والتشعب لتشمل جوانب أخرى في الحياة بأقدار محدودة تحدث التوازن في المجتمع الواحد. إن الإسلام جعل أيضاً للحب هدفاً وغاية، وليست الغاية تقوية الجانب بالوحشي القائم على إشباع الغريزة ومتابعة الهوى، فغايته إثارة الهمم السامية وطلب الكمالات والعزمات العالية، وفي ذلك يقول ابن قيم الجوزية : (الحمد لله الذي جعل المحبة إلى الظفر بالمحبوب سبيلاً، ونصب طاعته والخضوع له على صدق المحبة دليلاً، وحرك بها النفوس إلى أنواع الكمالات إيثاراً لطالبها، وأثار بها الهمم السامية والعزمات الغالية إلى أشرف غايتها تخصيصاً لها وتأهيلاً).[4] يرتبط بقضية الإسلام والشعر موقف القرآن الكريم من الشعر والشعراء، فقد وردت كلمة شاعر وصفاً للرسول عليه الصلاة والسلام أربع مرات في القرآن: (بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ) [5] (وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ) [6] (أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) [7] (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ) [8] كما وردت كلمة الشعر نفيا لصفة الشعر عن الرسول صلى الله عليه وسلم (وما عملناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين) [9] فهذه الآيات كلها مكية نزلت بصدد الرد على المشركين من قريش، الذين وصفوا الرسول صلى الله عليه وسلم بما ليس صحيحاً فيه، وهو أنه شاعر تعلم الشعر، لأنه رسو ل جاء بشيء غير الشعر ولهدف غير ما يقال الشعر لأجله، هذا بالإضافة إلى مقصدهم في أن يصفوا الرسول صلى الله عليه وسلم بأن به ما يعتقدون في الشعر من مس الجن، وهي أوصاف تناقض معنى الرسالة والوحي، والمشركون يريدون بتلك الأوصاف أن يهونوا من شأن الرسول والرسالة ويكذبوا بالقرآن وما فيه من إعجاز وتحد لهم . وتنزيه القرآن عن أن يكون شعراً ليس طعناً في الشعر ، ولاتقليلاً من وظيفته، إنما هو تنبيه أن القرآن كلام لا يشبه ما عرف العرب من شعر وسجع ، كما أن المشركين قصدوا إلى جعل الرسول صلى الله عليه وسلم واحداً من الموهوبين الذين يمكنهم أن يقولوا مثل القرآن ، فينفوا عنه صفة الرسولية وأنه مرسل من عند الله بالرسالة (ألا ترى كيف نسبوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشعر لما غلبوا وتبين عجزهم ؟ فقالوا : هو شاعر لما في قلوبهم من هيبة الشعر وفخامته وأنه يقع منه ما لا يلحق والمنثور ليس كذلك)[10] . وكما يقول الدكتور عبد القادر القط (فإن القرآن لم يصدر حكماً بعينه على الشعر ولم يتخذ موقفاً خاصاً وإنما نفي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرة بعد أخرى أن يكون شاعراً من الشعراء وأن تكون رسالته كرسالتهم) [11] . (إن هو إلا ذكر وقرآن مبين ) [12]. ومع أن سورة الشعراء كلها مكية إلا أن الآيات الأخيرة منها، والتي تبدأ بقوله تعالى : (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ *وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ *إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) [13] مدنية وفي ذلك دلالات عدة منها: - أن تخصيص سورة في القرآن باسم (سورة الشعراء) دلالة على مكانة الشعر كوسيلة من وسائل الإبداع الإنساني، وبخاصة في مجتمع كان للشعر أثره في النفوس، يتفاعلون معه ويستثيرهم ويؤجج عواطفهم وهذا ما جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يستعين به، ويوظفه في مقاومته أهل مكة وشعرائها، الذين هجوه وآذوا دعوته وصدوا عنها وخاصموا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقد كان على الشعر العبء الأكبر في تأجيج نار الخصومة والمجاهرة بها . - إن هذا التركيز الذي عبر عن العلاقة بين الدعوة الجديدة والشعراء، جعل كثيراً من الشعراء المخضرمين يصرفون نفسهم عن الشعر، وأن لم ينصرفوا عنه كلياً ، لأن أثر الآية قد ظل في نفوس الشعراء يذكرهم بالدور القاسي والمؤلم الذي قام به الشعر في مواجهة الرسالة الجديدة وصاحب الرسالة . - إن شمولية النظرة الإسلامية للحياة اقتضت أن يكون رأي الدين في الفن الذي نبغ فيه العرب وكان ديوانهم، الذي سجل تاريخهم وحياتهم وأيامهم، فجاءت آية الشعراء صريحة مؤكدة أن الشعر في مجموعة مرتبط بالغواية والضلال والخيال والكذب ولذلك قالت العرب (أجود الشعر أكذبه)، والإسلام يطلب عنصر الصدق في الشعر، وهذا يناقض ما وصفوا به من أنهم يهيمون في كل واد ويقولون ما لا يفعلون، ليس عن براءة وغير قصد بل اعتسافاً وغلوا ومجاوزة للحد وتعمد مخالفة القواعد الأخلاقية. - أن الاستثناء في الآية قصد به شعر المسلمين، من أمثال حسان وكعب بن زهير ، وعبد الله بن رواحة ، وكعب بن مالك ، ممن دافعوا عن الرسالة والرسول ونافحوا عن الإسلام، ودافعوا عن القيم الفاضلة، فقد اقلقتهم آية الشعراء فذهبوا يبكون للرسول صلى الله عليه وسلم ، فذكرهم صلى الله عليه وسلم بالاستثناء مهدئاً من روعهم مطمئناً لهم. (قال أبو الحسن المبرد لما نزلت " والشعراء" جاء حسان وكعب بن مالك وابن رواحة يبكون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا نبي الله ! أنزل الله تعالى هذه الآية وهو تعالى يعلم أنا شعراء ؟ فقال: (أقرأوا ما بعدها) (إلا الذين أمنوا وعملوا الصالحات ) أنتم (وانتصروا من بعد ما ظلموا ) انتم أي بالرد على المشركين قال النبي صلى الله عليه وسلم (انتصروا ولا تقولوا إلا حقاً ولا تذكروا الآباء والأمهات).[14] - لابد أن يكون الشاعر ملتزماً بالمعنى الواسع للالتزام . الالتزام بشخصية الأمة وعقيدتها وفلسفتها في الحياة، وهو ليس التزاماً قهرياً واستبدادياً يفرض من سلطة دنيوية علياً، بل هو التزام مرتبط بعقيدته ورسالته في الوجود ، التزام منطلقه حرية الشاعر وإيمانه وقرآنه وسنته . ليس من الغرابة أن يضع القرآن قيود أخلاقية على الشعر، لأن الدين حرية ملتزمة واعية لا تستجيب للأهواء والغرائز، وهذا الإطار الأخلاقي لم يوضع للشعر وحده بل لجميع أنواع النشاط البشري، حتى يمكن خدمة الدين وفق مبادئ مبنية على الصدق والحق والعفة والالتزام . الهوامش: [1] الشعر الإسلامي والأموي عبد القادر القط.ص 13 دار النهضة العربية بيروت. 1979م. [2] المصدر السابق ص 13-14. [3] المصدر السابق ص 68. [4] روضة المحبين المقدمة تحقيق الأستاذ أحمد عيد / دمشق 349ه (المقدمة) [5] سورة الأنبياء الآية 5. [6] سورة الصافات الآية 36 [7] سورة الطور الآية 30. [8] سورة الحاقة الآية 41. [9]سورة يس الآية 69. [10] ابن الرشيق العمدة في محاسن الشعر وأدبه ص 21 ج / 1 تحقيق محمد محي الدين ط5 /1401ه- 1985م [11] الشعر الإسلامي والأموي ص12 . [12] سورة يس الآية 69. [13] سورة الشعراء الآية 224-226. [14] القرطبي الجامع لأحكام القرآن ص 153 ج/13 ط دار إحياء التراث بيروت 1405ه – 1985م.