جمعت بينهم الهموم والمتاعب والطموح الذي هوى فوق رؤوسهم، إنهم أصحاب الدرداقات الذين مافتئوا يعملون تحت أشعة الشمس الحارقة وهم يدفعون «بدرداقاتهم» أمامهم وهي تنوء بما تحمل فما بال أجسادهم؟! يبدأ يومهم العملي مع «الصلاة خير من النوم»، ويمتد دوامهم حتى ما بعد منتصف الليل، منهم من يعمل في الأسواق في الترحيل الحر ما بين المحلات التجارية ومواقف المواصلات، ومنهم من يعمل مع «ستات الشاي» في نقل أمتعتهنّ وأثاثاتهنّ من مكان وجودهن وإليه، «الملف الاجتماعي» جلس إليهم في أماكن وجودهم للتعرف على أحلامهم ومتاعبهم.. كتبت: سحر بشير سالم بموقف الشهداء بأم درمان التقيت مجموعة من الفتية يعملون بذات المهنة لكل منهم طموحه وآماله ولكن على حد تعبيرهم «العين بصيرة واليد قصيرة»، تحدث إلينا في البداية عبد العظيم عبيد الله من قرية الكراتيب ريفي حوش أبكر بالجزيرة، عبد العظيم شاب في مقتبل العمر لم تُتح له فرصة الدخول للمدرسة نسبة للظروف الاقتصادية، كان يعمل في بيع المناديل والمعجون وفرش الأسنان بالسوق العربي مفترشًا الأرض ولكنه لم يسلم من «الكشات» والمطاردات، وبعد أن صودرت بضاعته اتجه للعمل في الدرداقات حيث يعمل في ترحيل أثاثات بائعات الشاي ويجلب لهن المياه ومستلزماتهن مستخدمًا الدرداقة، وهو شخص معروف في الحي الذي يقطنه «حي الشهداء» ويستعين به أهل الحي لنقل مستلزماتهم من الأسواق والمحال التجارية، يصف عمله بأنه غير مستقبلي يحكي قائلاً: أعلم تمامًا أن عملي هذا غير مستقبلي وكغيري من الشباب أحلم بالزواج وتكوين أسرة ولكن من أين لي ويوميتي جنيهات تحصى على أصابع اليد الواحدة، وهنالك بالقرية أهلي في انتظار ما يسد رمقهم عبر تحويلي لهم لمبالغ مالية ضئيلة هذا بجانب التزاماتي الشخصية من إيجار وإعاشة، حقيقة لم أجد مساندة من أي جهة ولا توجد جهة بعينها تعنى بأصحاب الدرداقات ولا بهموهم ومشكلاتهم فنحن نعيش معاناة حقيقية.. وعبركم أُوجه رسالة للمسؤولين للنظر في أوضاعنا. ضابط شرطة عبد الباري الشقيق الأصغر لعبد العظيم يعمل معه بذات المجال وهما المسؤولان عن الأسرة «أربع فتيات وأب طاعن في السن» ولعبد الباري طموح لا تحده حدود فهو كان متفوقًا في دروسه وأحرز نسبة «95%» بالصف الثاني الثانوي ولكنه ترك مقاعد الدراسة ليلحق بركب أصحاب الدرداقات نسبة لضيق ذات اليد وعجزه عن الإيفاء بمتطلبات الدراسة، يتمنى عبد الباري أن يكمل تعليمه إذا ما توفرت له الظروف المناسبة ويطمح للالتحاق بكلية الشرطة أو جامعة الرباط، ولكن دائمًا الظروف الاقتصادية له بالمرصاد وتقف حائلاً دون تحقيق ما يصبو إليه، يقول عبد الباري: حتى في مناسبات الأعياد أحيانًا كثيرًا نكون بعيدين عن الأهل ونقوم فقط بإرسال ما تيسر لهم من مبالغ ضئيلة ولو أُتيحت لنا فرصة للسفر يكون «البال مشغول» بالمهنة لأن «رزق اليوم باليوم»، ولكني مازال الحلم يرداوني بإكمال تعليمي. الضغوط طغت على الطموح حسن خالد من قرية سليم ريفى المحيريبا محلية الحصاحيصا يعمل بهذه المهنة منذ ثلاث سنوات خلت، حسن ترك المدرسة وهو طالب بالصف الثامن فهو أكبر إخوته ويعتبر هو المسؤول عن الأسرة فالوالد معاق، يبدأ حسن عمله عند الخامسة صباحًا ويخلد للراحة ساعتين بعد الظهيرة ليواصل عمله بقية اليوم حتى الواحدة صباحًا، يحكي عن نفسه قائلاً وهو يجر حبات مسبحته بيده اليمنى: أؤمن بأن هذه المهنة غير مستقبلية ولكني لم أجد بديلاً ولكن يراودني حلم السفر للخارج، قاطعته قائلة: وأي مهنة ستمتهن بالخارج وأنت غير مؤهل أكاديميًا؟ ألا تنوي متابعة الدراسة أولاً؟ وحتى السفر يتطلب مصروفات؟ أجاب بقوله: الضغوطات المعيشية طغت على الطموح ولا مجال للعودة مرة أخرى للدراسة وفيما يتعلق بالسفر للخارج فقط توكلت على الله وأفوِّض أمري إليه. هموم ومشكلات وقد لاحظت من خلال حديثي معهم حالة التكافل والتكاتف فيما بينهم فعندما يمرض أحدهم يقوم زميله بالعمل نيابة عنه في ترحيل أثاثات بائعات الشاي اللائي يعمل لديهن زميله المريض، وفي نهاية اليوم يأتي له بأجرته كاملة دون أن ينقص منها شيء، وفيما يتعلق بالمجاملات الاجتماعية فمن الضرورى عليهم وحسب العرف والعادات المتبعة ببلدهم لا بد لهم من السفر والمجاملة في الأفراح والأتراح والمشاركة في «الكشف»، وفي هذه الحالة يكون العمل مقسمًا فيما بينهم بالتناوب. محمد وحيدر يعملان بسوق بحري في نقل البضائع والمشتريات من موقف المواصلات واليه، محمد ترك المدرسة وهو بالصف الثالث أساس لعدم تمكن أسرته من توفير متطلباته الدراسية، وحيدر التحق بالخلوة ولكنه لم يواصل الدراسة بها نسبة لقسوة الشيخ، على حد قوله، وهما يسكنان مع إخوة لهم يعملون في مهن متفرقة، يطمح محمد في مواصلة دراسته إذا ما أُتيحت له الفرصة ولكن حيدر يلازمه شعور بعدم التوفيق في المدرسة. الاختصاصية الاجتماعية بدرية الأمين أفادتنا بقولها بعد أن وضعنا أمامها هذه النماذج، أفادتنا بقولها: هذه المهن البسيطة موجودة على نطاق العالم وليس السودان فحسب ولا غنى عنهم ولكن يمكنهم ممارسة هذه المهنة بطريقة منظمة ومرتبة وفق جهات مسؤولة منهم، وهؤلاء غالبًا ما يكونون ضحية لظروف اجتماعية مثل طلاق الأبوين أو اقتصادية كضيق ذات اليد وعدم تمكن الأسرة من الإنفاق عليهم وربما يكونون ضحية لظروف أمنية نتيجة للحروبات والنزاعات القبلية ممايضطرهم للهجرة والعمل خارج نطاق القرية أو البلدة التي ينتمون إليها، وهذه الظروف المذكورة تؤثر سلبًا على تحصيلهم الدراسي فيلجأون للعمل في هذه المهن التي لا تتطلب التخصص، وبالرغم من أنها مهن غير مستقبلية إلا أنها خير من أن يعيشوا عالة على المجتمع، وأغلب هؤلاء كما أسلفت من الفاقد التربوي، فيجب على الجهات المعنية بالأمر النظر إليهم بعين الاعتبار.