في الطريق إلى عمان كنت أراقب كل المدائن ذات الوجوه العربية المألوفة، والأشجار التي تتحدى الجفاف، والإرادة السعودية التي تقهر الصحراء وتحيل رمالها وآكامها مزارع قمح وشعير وأزاهير وحدائق نخيل وأعناب تسر المسافرين الذين تأخذهم مداخل المدن: طيبة، خيبر، تيماء، تبوك، ضباء، الوجه، أملج، ينبع، وكنت في كل مدينة أجتر أحلام اليقظة وأحاور الرحالة الذين ارتادوا هذا الطريق في يوم من الأيام ابن بطوطة وابن جبير، العبدري، والبلوي وحاج الماحي وغيرهم، وحتى أولئك الذين قدموا بالباخرة في زمن متأخر وكتبوا عن جدة وعن الخيام القابعة خارج أسوار المدينة وتسكنها بعض الأعراب وتسمى النزلة وقد أصبحت الآن من أهم مكونات وسط المدينة، انطلاقتنا كانت منها عبر الطريق الساحلي الأنيق، في طريق عودتنا توقفنا في عتول ذات المحطة التي توقف عندها حاج الماحي الذي ذكرها في مدحته (متين يا ربي نحدا العتول) ولم يجد فيها سوى صوت أصحاب الجمال الذين يتلقفون ضعاف الحجاج لنقلهم على دوابهم الهزيلة ومناداتهم (يا رويكب، يا رويكب)، في ذات المكان، وقد استدار الزمان، كنا على موعد مع وجبة سمك في أشهر مطاعمها، وفي مدن الساحل الذي كان ماء الشرب يشكل هاجسًا للحجيج في زمان مضى كنا نتناول الكبتشينو والقهوة الفرنسية ووجبات (الفاست فود) من دارات القهوة التركية الراقية المبثوثة على طول محطات واستراحات الطريق المسفلت الجميل، إن المدن على امتداد الطريق إلى الأردن تقف عرائس في قلب الصحراء شواهد حية على أن الوطنية الصادقة ليست أعلامًا ترفع في المناسبات المختلفة أو هتافات جوفاء تبعثها الحناجر المنهكة في المسيرات الصاخبة، أو كلمات عالية الإحساس يصوغها شعراء المنافي ويشدو بها أولئك المعلقون على مشاجب الرومانسيات الحالمة، إن الوطنية الحقة هي تلك السواعد التي تترجم حبها العميق أعمالاً على الأرض منارات وقممًا وصروحًا علمية تقي أبناء الوطن مخاطر التشتت في بلاد الله الواسعة وتمنحهم العزة بالانتماء في الأردن كان هنالك نموذج آخر يبنى من الإمكانات المحدودة مملكة لا محدودة تقف في قلب العالم العربي مركز إشعاع حضاري رائع، أول ما يطالعك في عاصمتها عمان ذلك العلم الضخم الذي يرفرف على كامل المدينة التى تشبه في جانب منها مكةالمكرمة خاصة وسط المدينة القائم على التلال الصخرية والمرتفعات الخضراء، بينما تشبه في كثير من نواحيها مدينة فاس المغربية التي تجمل شوارعها أشجار الزيتون والصنوبر ويمنحها البرد القارس في الشتاء نكهة مميزة ورائحة البن المطحون الذي يعبق في مدينتها العتيقة في بعض أحياء عمان القديمة مثل الماركة توجد جمعيات السودانيين، أقدمها جمعية أبناء أبو فاطمة وبدين وعبري وأبو صاره، وفي شارع المدينةالمنورة يقبع النادي الثقافي الرياضي السوداني الذي يفتح أبوابه لأنشطة السودانيين وخاصة في شهر رمضان وفي المناسبات المختلفة كالأعياد التي يحرص سفيرنا في الأردن على إقامة الولائم وحفلات الاستقبال في الدار السودانية، وفي عمان أيضًا عمل الأديب الأريب الأستاذ عادل عبد الرحمن ملحقًا إعلاميًا لسفارة السودان بالأردن، ظل فيها يمارس الكتابة ويطل أسبوعيًا عبر مقاله في جريدة (العرب اليوم) الأردنية يحدثهم عن السودان بوطنية صادقة وعشق أكيد، وقد جمع مقالاته تلك في كتاب باسم (أقرب للتقوى) قال عنه الكاتب الفلسطيني إبراهيم جابر إبراهيم (مثل طفل يعد أصابع قدميه يختبر ماء البحر وجلاً ومترددًا وبمزاج لعوب، هكذا على الضفاف دائمًا، وبخشية وقلة مكر يقترب عادل عبد الرحمن من أطراف الحياة يجذبها بأصابع غير مدربة لكنها سرعان ما ستنزلق لاحقًا من بين أصابعه، قاص وصحفي وكاتب مقالة وعاشق، وسياسي (وهذا ما لا أستطيع الاقتناع به) ذلك أن حياة عادل عبد الرحمن التي ترتبت منذ عقود على نسق من الحساسية العالية تتنافى تمامًا وبراغماتية السياسي أو تحليله المرحب به رسميًا) «ص 9» وكتب عنه الأستاذ طاهر العدوان رئيس تحرير صحيفة (العرب اليوم): (يكشف لنا عادل عبد الرحمن في مقالاته عن أسراره بكلمات حنونة مجبولة بآهات النفس الإنسانية، مراراتها وعذاباتها وعشقها وتمسكها الأبدي بالحب، وأنا اقرأ كلماته أشعر بأنه يؤدي طقوسًا دينية يخاطب فيها روحه وروح من يحب بل الروح البشرية وهي متحررة من الجسد قاهرة للذاته وآلامه) ما الذي شدّ هؤلاء إلى كتابات عادل عبد الرحمن سوى تلك اللغة ذات الكثافة، وذلك الصدق والحميمية في التناول، والإيقاع الذي يصاحب كتاباته حتى لتبدو مقالاته أشبه بمقاطع موسيقية في سيمفونية محكمة التأليف، بهذه اللغة الموحية استطاع أن يقدم ببراعة الشخصية السودانية، السياسة السودانية، التاريخ السوداني، والثقافة السودانية بشكل صاف مونق، وأن يترجم بصدق انفعالاته المتوترة بما يحدث في الساحة العربية التي يعيش في محيطها ودائرتها، متكئًا في كل ذلك على خلفية ثقافية ومعرفية مدرارة، تظهر أحيانًا في مستهل مقالاته، ويأخذ منها الحكمة والإيحاء في مقالات أخر، تأمل معي المقطع التالي: آه لو تأتين من عميق الموج من صلب الحياة أسرع من رجوع الطرف أو أدنى إليك وصوت فيروز الموزع بين طائفتين عافية الشجون بها نحيا وعليها نلقى الحبيبة بلاد هذا العمر يابسة المحاط وقد يحسب البعض أن الكلمات المذكورة مقطع من قصيدة حديثة، لما فيها من جرس وإيقاع داخلي، وهي ليست كذلك، بل هي بعض عناوين مقالات الأستاذ عادل عبد الرحمن في كتابه المذكور، ومنها تستشف شكل الكتابة لديه حتى لتبدو المقالات أشبه بالقصائد الشعرية المتحررة من قيد التفعيلة والروي، ولقد تعمدت بأن لا أقدم تلخيصًا مختصرًا لهذا الكتاب الرائع (أقرب للتقوى) لأنه في محمله كالقطعة الموسيقية تأخذ حلاوتها من كامل أجزائها ومكوناتها ولا تحتمل الاختصار، فالتحية لهذا الكاتب المبدع والتحية للأردنيين الذين وجد عندهم عادل عبد الرحمن البيئة الصالحة والأرضية الخصبة التي تحتضن فكره وأدبه، و«شكرًا للذين أتاحوا الفرصة لنعيش يومًا آخر، وشكرًا لتلك تحملني بين الضلوع، وتدسني بين ثنايا الحلم، ثم شكرًا للصبر الذي يأمل في غد زاهر ويحرض على المحاولة التي ترفعنا كثيرًا حتى لا نموت من الفجيعة» أو كما يقول عادل عبد الرحمن. كاتب سوداني مغترب بجدة