كتبت: هادية قاسم - تصوير: متوكل البيجاوي لا أحد يجهل أهمية المكتبات العامة والخاصة ومدى دورها في إرساء دعائم المعرفة والثقافة ومن ثم النهوض بالمجتمعات التي تخرِّج أجيالاً مثقفة، فالكتاب قيمة ثمينة لمن عرف جوهره، والقلة القليلة من السودانيين هم من يعرفون ذلك ويقدرونه، لذا نجد مسألة اقتناء المكتبات الخاصة يهتم بها المثقفون من أهل العلم والمعرفة. عدد من المكتبات الخاصة تزخر بآلاف الكتب المتنوعة، كيف تم جمعها، وكم كتابًا في كل منها وكيف هي علاقة صاحبها بها، كما أن هنالك مكتبات ضاعت أو أُتلفت بفعل الظروف وبمرور السنين، لمعرفة كل هذه الجوانب وقفنا لدى عدد من المكتبات الخاصة حتى نخرج بالمفيد. وكانت أولى محطاتنا مع مولانا دفع الله الحاج يوسف الذي كان يشغل رئاسة القضاء في حكومة نميرى، هو رجل القانون المثقف الذي تلمح ثقافته بكل وضوح حينما يحكي. بدأ حديثه قائلاً: إن جيلنا كان له اهتمامه بالقراءة منذ المراحل الابتدائية، وكان النشاط الفكري والأدبي يحتل مكانة مميَّزة في المنهج الدراسي كله، وكانت تتوفر المكتبات وحصص المكتبات ولم تكن هناك الوسائط الأخرى الموجودة الآن التي تأخذ من وقت الطالب مثل الإنترنت والتلفزيون، وكانت الثقافة قيمة فكل السياسيين الأوائل في الأجيال السابقة عرفوا بالثقافة، وكان الأساتذة مثقفين موغلين في ثقافتهم، حيث كانت هناك الجمعيات الأدبية المشهورة التي يلتقي عندها الأدباء، بجانب الصحف المصرية التي كانت تمثل رافدًا مهمًا وأذكر أنني كنت أذهب كل يوم أربعاء لمكتبة حسن بدري لأسأل عن مجلة «الرسالة». وإن القراءة وقتها كانت تكاد تكون عادة للمتعلمين، والسبب أن التعليم الجامعي لم يكن متاحًا، كل هذه العوامل يرى مولانا دفع الله أنها جعلت القراءة أمرًا مهمًا وملازمًا لكل متعلم، ولعله لهذا السبب أن كثيرًا من الذين تولوا مناصب عامة لم يجدوا فرصة لتعليم جامعي لكن اجتهادهم الشخصي وانكبابهم على القراءة مكَّنهم من ذلك. كما تحسر مولانا على واقع القراءة اليوم والتي لم تجد المكانة التي كانت تجدها في الماضي. طقوس للقراءة ولمولانا طقس محدد للقراءة، فهو قد يبدأ قراءة الكتاب في جو مهيأ ومن ثم يسجل ملاحظاته تارة بعد أخرى بجانب كتابته للشعر في طرف المجلات أو في ظرف خطاب وهو بذلك يصطاد الأفكار حتى لا تشرد منه، ويرى أن تتم مناقشة كل ما يقرأه مع آخرين حتى لا تكون القراءة في الذهن فقط دون جدوى. طرق متعددة أما اقتناؤه للكتب فقد جمعها بطرق متعددة، فمنذ العهد الدراسي الثانوي والجامعي كان يشتري ما يستطع من الكتب يقرأها ويحرص عليها فتظل موجودة لديه، وحينما يذهب لبلد ما يزور أولاً المكتبات فمثلاً في مصر بدأت صداقة بينه وبين وهبة ومدبولي، وفي إنجلترا كان يذهب لمكتبات مشهورة، بجانب الإهداءات التي كانت تصل إليه من أصدقائه مثل د. نور إبراهيم نور لا يأتي إلى السودان إلا ومعه آخر ما صدر من الكتب. كما أن الرسائل التي أشرف عليها بجامعة الخرطوم يحتفظ بها في مكتبته، بجانب كمية كبيرة من الدواوين الشعرية مثل شعراء العهد العباسي والأموي وشعراء المدارس الحديثة. وأجابني مولانا دفع الله الحاج يوسف بحكمة المرحوم عمر حاج موسى التي تقول «أحمقان معير كتاب ومعيدة» حينما سألته: هل تعير كتابًا لأحد؟ وقال إن بروفيسور حسن مكي من الذين يأتونه بكل جديد في الكتب. كتب «مردومة» سؤال أثار حفيظتي لم أجد له إجابة واضحة لدى مولانا وأن كان قد أدهشني جوابه: كم كتابًا في مكتبتك؟ قال إنه لا يعرف إلى الآن كم تحوي مكتبته من الكتب لأنها «مردومة» في غرف متفرقة بمنزله بأم درمان وذلك لكثرة تسفاره وترحاله من بلد لآخر، ويقول إنه ينوي حصرها وتبويبها وتنظيمها، وقال: «إذا أمد الله في العمر سأهديها لواحدة من الجامعات التي تربطني بها علاقة». إعادة القراءة ويوضح دفع الله أن علاقة القارئ بالكتاب تختلف من شخص لآخر، فهناك الكتب المرجعية التي تتعلق بمهنته «القانون» وهي كتب يرجع إليها دائمًا للبحث في موضوع معين في القانون، ومن ثم كتب «التاريخ والجغرافيا» وهذه يطلع عليها من باب الثقافة العامة ويرجع لبعض فصولها من وقت لآخر، وهناك كتب «السير» خاصة السير المعاصرة، والكتب التي تقرأ تقدمة لها أو تعليقًا عليها في المجلات وتحاول اقتناء هذه الكتب، فإذا كانت في موضوع محل اهتمام عنده قرأها مولانا قراءة متأنية ويعود لقراءاتها ثانية ويمثل لذلك بقوله: «قرأت قبل فترة كتاب التاريخ السري للاحتلال الإنجليزي في مصر لمستر «لونت»، وكان من المتعاطفين مع البلاد العربية لا سيما مصر، وكان صديقًا للإمام الشيخ محمد عبده وهو يروي أحداثًا عاشها في مصر واستانبول وإنجلترا، ثم يحكي عن علاقاته بالذين كانوا يلعبون دورًا محوريًا في هذه الأحداث.. هذا الكتاب قرأته مرتين.. وغيره من الكتب التي يرجع إليها مولانا دفع الله من وقت لآخر. ويكشف عن كتب لكتاب إنجليز وفرنسيين تُرجمت أعمالهم إلى العربية والإنجليزية يجد فيها متعة كبيرة لأنها تغوص في أعماق المجتمع الغربي وتوضح التحولات التي طرأت عليه وعلاقة الطبقات بالنظام السياسي في تلك البلاد والحكومات، وأضاف أن آخر كتاب قرأه «أحداث 11 سبتمبر». موضوعات مهمة يقول مولانا إن هناك موضوعين مهمين لم يجدا مكانهما في المنهج الأكاديمي في النظام التعليمي وهو تاريخ السودان القديم والوسيط والحديث، ومكونات الأمة السودانية وتركيبتها القبلية والتعدد الاثني والعرقي.. ومن الموضوعات المهمة أيضًا: ما سُمِّي بالصحوة الإسلامية وتجاربها وإخفاقاتها ونجاحاتها وعلاقاتها بالنظام العالمي السائد الآن، كما أن هناك مجالاً ضخمًا للقراءة والدراسة إذا وجد القارئ الوقت الكافي، بجانب الكم الهائل من الأخبار والمعلومات بشتى أنواع المعرفة التي تزخر بها المواقع الإعلامية.