جمعية المهندسين المعاشيين للبلديات الأوربية جمعية طوعية تقدم الاستشارات للعواصم والمدن الأوربية في مجال خدمات النقل العام.. والجمعية تقدم استشاراتها تطوعاً ولا تأخذ عليها أجراً، استقدمها والي الخرطوم السابق لتقديم النصح وتقييم أداء خطط الولاية الهندسية، زارت هذه الجمعية كل مناشط الولاية بما يتعلق بالتخطيط..!! أول ما لفت نظر هؤلاء الخبراء الخطأ الكبير الذي ارتكبته الولاية في مجال النقل والمواصلات، وبعد عمل ميداني وجد أن عدد السيارات التي تمر يومياً بكبري الفتيحاب يعادل (خمسة وسبعون) ألف سيارة منها (خمسة وخمسون) ألف حافلات نقل عام بمختلف أنواعها و(عشرين) ألف سيارة خاصة.. في ذلك الوقت كان عدد السيارات في الخرطوم بمختلف أنواعها حوالى الثلاثمائة ألف سيارة!!. كان هذا في العام (2004م)، وفي ذلك الوقت كانت تجري ترتيبات لإنشاء عدة كباري وهي الفتيحاب، المنشية، سوبا، الحلفايا، العزوزاب وكبري المك نمر..!! جاءت توصية الخبراء بأن هذه الكباري ليست أولوية، والأولوية أن يقوم الاستثمار في النقل، فالبنية التحتية كافية لخدمة الثلاثمائة ألف سيارة التي كانت موجودة آنذاك!! هذه التوصية التي تقدم بها هؤلاء الخبراء لم تعجب الوالي السابق وأعلن عن عدم رضاه بأن لم يحضر حفل العشاء المقام على شرفهم، علماً بأن كل بلديات العواصم الأوربية والمدن الكبرى في أوروبا تقيم توصياتهم تقييماً عالياً وتعمل على ما يقدمون من تقارير في تخطيط المدن.. اليوم عدد العربات الخاصة في الخرطوم أربعمائة ألف سيارة أو نحو ذلك، وهذا لا يعني بأية حال من الأحوال أن هناك أربعمائة ألف مواطن يملكون سيارة، ففي الأسرة الواحدة قد تجد أكثر من سيارة وبعض الأسر تجد أمام المنزل أسطولاً من السيارات يزيد عن الخمسة «اسألوا عن عدد سيارات الدستوريين» كما أن سيارات الشركات التجارية والمصانع تدخل في هذا الرقم.. فإذا كانت ولاية الخرطوم تضم عدداً من الأسر ثمنمائة ألف أسرة نجد أن نسبة عشرين في المائة من هذه الأسر تملك على الأقل سيارة واحدة يعني تقريباً مائة وستين ألف أسرة من أصل ثمنمائة ألف أسر من المستفيدة من هذه الكباري، أما (الستمائة وأربعون) ألفاً وهي الأغلبية لم تستفد من الخدمات التي تقدمها الولاية للمواطنين، فالخدمة تقدم للمحتاج ولا تقدم للمقتدر.. الكلاكلات وجبرة والصحافة وكل جنوبالخرطوم وهؤلاء يشكلون أكثر من ربع سكان الخرطوم ما الفائدة التي جناها هؤلاء من إنشاء الكباري، في حين أنهم وغيرهم يعانون أشد المعاناة في الوصول إلى ديارهم بعد ساعات العمل.. وذات الأمر ينطبق على مواطني أم بدة وغرب أم درمان عموماً، في حين أن الوصول من أم بدة إلى الخرطوم أسهل بكثير من الوصول من ذات أم بدة إلى أم درمان التي لا يحتاج الوصول إليها إنشاء كبري. خدمات الكباري توجه لنحو مائة وستين ألف أسرة في حين أن الخدمات يفترض أن تستفيد منها ثمنمائة ألف أسرة..!! كبري المك نمر وكبري النيل الأزرق يُحرم المواطن العادي من الاستفادة من خدماته لأن حافلات النقل العام غير مصرح لها بعبورهما، واستخدام هذه الجسور بواسطة المواطن العادي متاحة له فقط راجلاً!. البنية التحتية تكرس للمركزية، حيث تصب كباري النيل الأزرق وبري والمك نمر وكبري النيل الأبيض وكبري الفتيحاب والعزوزاب وسوبا وتوتي كلها من مناطق مختلفة تصب في المركز الخرطوم، ووسيلة النقل العام الوحيدة هي الحافلات، واستيراد هذا الكم الهائل من الحافلات يفاقم الأزمة ولا يحلّها.. حيث لا يعقل أن يستأجر صاحب الحافلة سائقين لحافلة واحدة، فالعمل يبدأ باكراً ولكل حافلة سائق واحد يعمل منذ الصباح الباكر فكيف يكون حضوره البدني والذهني في الساعة الثالثة أو الرابعة ظهراً،. حتمًا يكون في غاية التعب لذا تجد نسبة هائلة من هذه الحافلات قد اختفت من الشارع في ساعات الذروة، ومن ذلك يعاني المواطن في الرجوع إلى منزله أيما معاناة..!! الأمر الثاني الخاطئ هو وجود مواقف للمواصلات العامة في قلب العاصمة وهو الأمر الذي تنفرد به الخرطوم دون عواصم ومدن العالم جميعاً.. الغريب سماع مسؤول كبير ينتقد وجود محطة السكة الحديد في وسط المدينة، رغم أن ذات المسؤول زار أكثر من عاصمة في العالم ورأى بأم عينه وجود محطات السكة الحديد في وسط المدينة، وذات المسؤول لا ينتقد وجود المطار في وسط المدينة إذا كان هذا نوع التفكير فكيف يا ترى يكون التخطيط..!! بهذا المفهوم تم تدمير السكة الحديد وهي عصب النقل في السودان وأحد أكبر الأعمدة التي يستند إليها الاقتصاد، ومحطة السكة الحديد في الخرطوم ليست محطة عادية، بل هي نقطة الانطلاق إلى وجهات السودان الأربعة شمالاً وجنوبًا وشرقًا وغربًا ولا تسمى محطة كما نسميها نحن بل تسمى ديبو وهي مصطلح فرنسي وهو المصطلح السائد في كل اللغات في العالم..!! حولوا الديبو الذي كانت تتوجه منه القطارات إلى جميع أنحاء السودان إلى موقف لحافلات الشقلة والحاج يوسف، فهل يا ترى تمت سعادة المواطن بهذا التحويل، أجزم بأن هذا لم يحدث بل زادت تعاسته فأصبحت بذلك الولاية كالمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.. أود أن أسأل إن كان هناك مجيب على أي أساس يتم الترخيص للحافلة لتعمل في خط معين..؟! هل على أساس دراسة علمية وتطبيقية أم أن ذلك يتم هزر مزر..؟!! ولماذا تعتمد الولاية على نوع وحيد من وسائل النقل الجماعي، وهي الحافلات، لماذا لا تخطط الولاية ولو للمستقبل اعتماد وسائل أخرى كالترام والترولي باص ولا أقول المترو..؟! مع الازدياد المضطرد لسكان العاصمة يكون من المستحيل الاعتماد على الحافلات، وقد ظهرت هذه الحقيقة في العقدين الماضيين حيث تفاقمت أزمة المواصلات بأكثر مما كانت عليه قبل عشرين عاماً بسبب زيادة سكان العاصمة غير المحسوبة والتي لا تدخل في التخطيط الذي تخططه الولاية إن كان هناك تخطيط أصلاً.. الترام مثلاً سعته تعادل سعة عشرة حافلات ولا يحتاج لمواقف داخل المدينة، فخطوطه دائرية تبدأ من نقطة البداية وتنتهي عندها ولا يحتاج أن يتوقف في يمين الشارع كما السيارة فيعطل حركة مرور السيارات الأخرى وكذلك الأمر بالنسبة للترولي باص والمترو، وهذه الوسائل لا تحتاج مركزية كما الحال الآن، حيث يمكن إنشاء خطوط لا يمكن أن تقبل بها وسائل النقل الأخرى كالحافلات، أي حافلة يمكن أن تقبل العمل في خط من سوبا مثلاً للكلاكلة رأساً فالذي يسكن في الكلاكلة مثلاً ويعمل في سوبا لزام عليه أن يأتي من الكلاكلة إلى الخرطوم ومن الخرطوم يستقل حافلة أخرى لسوبا وهذا مثل بسيط، كم سيتوفر من الوقت للمواطن ليذهب إلى عمله في الوقت المحدد ويخرج منه كذلك في الوقت المحدد، فالرحلة تستغرق ذهاباً وإياباً حوالى الثلاث أو الأربع ساعات، أي عمل يمكن أن يؤديه المواطن إذا كان الطريق إلى مكان عمله والعودة يستغرق نصف يومه العملي المقدر بثماني ساعات!! وسؤال أخير لماذا تستدعي الولاية خبراء تخطيط المدن كالجمعية التي ذكرت وهي معترف بها في كل مدن العالم وعواصمه، ثم نقوم بعكس ما يشيرون ونتوهم أن ما نقوم به من تخبط هو التخطيط بعينه.. لماذا..؟!