حسناً.. تم التوقيع على المصفوفة التي تعالج الترتيبات الأمنيَّة بين البلدين (السودان وجنوب السودان)، ويُنتظر أن تُعدَّ وتُوقَّع مصفوفة أخرى لبقيَّة الاتفاقيات الثماني اليوم أو غداً في أديس أبابا يوقِّع عليها رئيسا الوفدين في اللجنة السياسية العُليا، (وزير الدولة برئاسة الجمهورية إدريس محمد عبد القادر وباقان أموم ممثل حكومة دولة الجنوب).. فبالرغم من نضوب التصريحات والأخبار عن تفاصيل ما تمَّ التوصُّل إليه في المصفوفة، هل هي ذاتها التي عُرضت من قبل أم تمَّ تعديلها؟ وهل عمليَّة فكّ الارتباط بين جوبا وقطاع الشمال تم حسمُها أم لا؟!! إلا أنَّ أسئلة كثيرة مطروحة أمام الجميع، حول مستقبل العلاقة بين الجانبين مع نشوء هذا الظرف الجديد.. ويبدو أن الموافقة على المصفوفة مطلوبة لذاتها من الخرطوموجوبا، قبل الخوض في تفاصيلها، فحكومة الجنوب قبل أن يجفَّ حبر التوقيع على المصفوفة سارع وزير نفطها ستيفن ديو للحديث عن استعداد بلاده لاستئناف تصدير النفط فوراً.. وهذا يعني أن جوبا أرادت من الموافقة على حسم الترتيبات الأمنية بشكلها الذي وُقِّعت به وتوقيعها على المصفوفة، الإسراع بحسم الملف النفطي!! فالرغبة في سرعة تصدير النفط عبر الأراضي السودانيَّة هو السبب الذي دعا جوبا للجلوس وحسم مسألة الترتيبات الأمنية... فالنفط سيُدرُّ على حكومة الجنوب «700» مليون دولار شهرياً، وهذا مبلغ ضخم يعالج المشكل الاقتصادي في الجنوب ويوفِّر لها أموالاً طائلة سيتم استخدامها لتسليح الجيش الشعبي ودعم العمل المسلَّح في السُّودان بأي وسيلة مباشرة أو غير مباشرة، دون المساس بالمصفوفة وخرقها، خاصةً أنَّ المنطقة حولنا وحدودنا الطويلة وتداخل الحدود مع دول الجوار الإفريقي وصعوبة التحكُّم فيها يجعل من السَّهل التعامُل مع المجموعات والحركات المتمرِّدة من ألف باب وباب! هناك معادلة تم التعامُل معها.. هي الأمن مقابل النفط، تريد الخرطوم ضمان الأمن، وتريد جوبا ضمان انسياب صادرات بترولها، فلكل طرف أجندته ورغبته، والتفاصيل الدقيقة لا تعني في هذه المرحلة شيئاً! نحن لا نثق على الإطلاق في حكومة دولة الجنوب ولا ينبغي لنا، فهي عدو إستراتيجي لا يمكن التعامل والتعايش معه أو الوثوق به، فحكومتُنا وفقاً لخياراتها خطت هذه الخطوة التي جاءت نزولاً عند شروطها لجوبا، لكن فلننظر ماذا وراء كل ذلك.. حسب معلومات وتقارير دبلوماسيَّة غربيَّة، فإن الإدارة الأمريكيَّة وحكومات أوروبيَّة لا تريد تحمُّل أعباء دولة كاملة وإضراعها باستمرار من ثدي الإعانات والمساعدات الماليَّة التي تقدِّمها لجوبا، ولا يمكن تبريرُها لدافع الضرائب الغربي، وقد بُحَّت أصوات هذه الدول من نُصح جوبا بحسم خلافاتها مع الخرطوم حتى تتمكَّن من الاستفادة الكاملة من عائدات نفطها وتأكل من مواردها وعمل أياديها... وسمعتْ جوبا أحاديثَ صريحة للغاية من دول غربية أمسكت عنها متدفّق خزائنها، وطالبتها بوضع تدابير ومعالجات تتضمن معاودة ضخ نفط الجنوب عبر السودان، ومن بين هذه المعالجات التوافق مع الخرطوم على شروطها المتعلِّقة بحسم الملف الأمني.. وهذا ما حدث! جوبا الآن بعد هذه المصفوفة تتطلَّع للمرحلة الثانية، فقد أعدَّت الخيارات والبدائل لكيفيَّة دعم حلفائها وعملائها ولن تتخلَّى عنهم أبداً، فمرحلة ضخ النفط والاستفادة من عائداته هي ما تركِّز عليه جوبا الآن لتقوية جيشها وتأهيله وإصلاح أوضاعها الداخليَّة واقتصادها المنهار.. ثم التفرُّغ بعده لصيغ جديدة لمواجهة الخرطوم ولن تترك الهدف الإستراتيجي الذي تلعب فيه دوراً محورياً مع قوى دوليَّة كبرى لإسقاط النظام في الخرطوم وتوصيل الجبهة الثورية للسلطة مهما غلا الثمن أو بخس ورخص! العلاقات الطيبة والمستقرَّة لا تصنعُها العواطف والتمنِّيات الطيِّبة، بل توجدها المُعطَيات والحقائق الموضوعيَّة والحذق والصراحة الكاملة والثقة وجدارها العالي السميك... من الأفضل قبل أن نستعجل ونلهث وراء توقيع مصفوفات جديدة للاتفاقيَّات الأخرى الانتظار قليلاً لنرى مدى التزام جوبا ومصداقيتها في تطبيق ما تعهَّدت به..