حوار: هادية قاسم المهدي - تصوير: متوكل البجاوي بروفيسور عبد الله حمدنا الله، ذاك الرجل الغني عن التعريف، وهو الذي عرفته ساحات الثقافة والمعرفة فطفق ينشر إبداعاته ليُستفيد منها من رغب، تجده ملمًا بكل ضروب الادب، يعرف مداخله ومخارجه، ودقيقًا جدًا في قراءاته للادباء انفسهم. التقته «نجوع» وناقشت معه بعض القضايا التي باتت تؤرق المهتمين في مجال الثقافة: بروف حمدنا الله، انتم على رأس قسم اللغة العربية ومنذ زمن مقدر، برغم الكوادر التي تُخرج نلاحظ ان مستوى العربية في تدهور مستمر في المدارس، اين يذهب هؤلاء الخريجون، الا تشعرون بالمسؤولية تجاه ذلك الحال؟ التعليم النظامي لا يؤهل تمامًا لكنه يؤسس للتأهيل، وعلى الدارس بعد ذلك ان يكون في تأهيل مستمر لان القضايا وما يتصل بها من علم مسائل متجددة، ثم على الدارس ان يُدرب نفسه بصورة تطبيقية خاصة في مجال اللغة لأنها تستقيم بالتدريب. هل هنالك من يكتسب العلم باستمرار؟ للأسف فإن قلة محدودة هي التي تكتسب العلم باستمرار، واقل منها ما يحمل نفسه بالتدريب؛ ولذلك تجد المستوى اللغوي متدن باستمرار، اذا اضفنا لهذا تدني مستوى الاساتذة والعملية التعليمية نفسها مما ينعكس على المستوى. وكيف نعالج الامر؟ هناك جهود مستمرة للارتفاع بمستوى التحسين لكن لن ترتفع اللغة الا اذا تحولت من لغة تُدرس الى لغة تدريس وتواصل في البيئة التعليمية في مستوياتها المختلفة. هل تعتقد اننا انصرفنا عن اولويات تعنى بترقية الانسان في مجتمعنا لثانويات لا تسمن ولا تغني من جوع، هل انشغالنا بالعيش اليومي يعفينا من التفكير في الانسان كعقل وفكر وثقافة؟ الانصراف عن الهم الثقافي انصراف سياسات ومؤسسات وافراد، لأن امر الثقافة لا يستقيم الا اذا استقام امر السياسة الثقافية وان تتحول من خدمة متدنية الاهمية الى مشروع استثماري عائده البشر. الم تحذُ السياسات الثقافية هذا الاتجاه؟ للاسف كل السياسات الثقافية منذ الاستقلال الى الآن لم تتجه هذا الاتجاه مما انعكس على اداء المؤسسات واهتمام الافراد، ثم ان المشكلة السياسية في اساسها هي مشكلة ثقافية لكننا قلبنا الامر فجعلنا المشكلة الثقافية تابعة للسياسية مما ادى الى التدهور الثقافي والسياسي معًا. اذن وفي ظل تلك المعضلات، كيف تقرأ واقع العربية اليوم؟ واقع العربية لا يسر، تسللت العامية الى اجهزة اعلامنا وتعليمنا، وانا لست ضد العامية لكن لتكن في مجالها وحيزها، وان يكون للعربية مجالها وحيزها، اذا اضفنا لذلك ضعف العملية التعليمية وضعف القائمين بأمرها، كل ذلك يجعل واقع العربية واقعًا بائسًا. لغة الإعلام لا تخلو من أخطاء؟! لا بد من الاعتراف لاجهزة الاعلام وخاصة الصحافة انها حققت ديمقراطية الثقافة وهذا يؤدي الى النزول بالعربية شيئًا ما، والارتفاع بمستوى العامة شيئًا ما، مما خلق لغة الصحافة، وهذا امر محمود. لكن المشكلة في خروج الإعلاميين عن لغة الاعلام نفسها في عدم إجادة العربية مما اوجد اخطاء كثيرة كنا قد رصدناها مسبقًا. ثم في الإكثار من العامية فضلاً عن اثر الترجمة من اللغات الاخرى في بناء العربية مما جعل مشكلة حقيقية في لغة الصحافة. لنقف قليلاً عند الشعر الشعبي، هل مازال بخير؟ «الشعر الشعبي» هو الشعر المنتج في بوادي السودان ونجوعه وكان شعرًا جيدًا من حيث لغته وخياله وتصويره للبيئة، وكان شعرًا صادقًا مما جعل له مكانة خاصة لدى المتلقي، لكن الآن اصبح هناك شعر هو في اساسه « شعر مدني» في ألفاظه ومعانيه وفي موضوعاته وليس هو الشعر الشعبي البدوي، وجد هذا الشعر قبولاً لدى إنسان المدينة ولكن يفتقد الانسان فيه الصدق الفني والبيئة السودانية بل المفردات السودانية في بداوتها، ثم ان كثرته قد ادت الى ابتذاله. أتعني أنه ليس هناك شعر جيد؟ هذا لا ينفي بالطبع ان هناك اشعارًا جيدة والذي يلتصق بروح البادية منها يجد تقديرًا حسنًا كما وجدت الشاعرة «نضال الحاج» قبل ان تصمت. بيئة «الطيب صالح» وثقافته شكلت إبداعه الكتابي، كيف تنظر للأمر؟ كل أديب يجد مكانًا تحت الشمس يجب ان ينطلق من بيئته، مثلاً الدكتور «إبراهيم إسحق» الذي وطّن دارفور في روايته؛ وانك لكي تكون اكثر عالمية لا بد ان تكون اكثر محلية لأنك لا يمكن ان تعطي الآخرين ما لديهم لكنك تجد اعترافًا حينما تقدم ما لديك، وهذا ما وجده «الطيب صالح » وما وجده ابراهيم اسحق داخل السودان، ولو وجد اسحق اعلامًا لكان مثل الطيب صالح. وجد الطيب صالح مكانة لانه في مضمونه الإبداعي انطلق من بيئته، وفي شكله الإبداعي اكتسب الاداة الفنية للرواية من خلال قراءته ومعايشته للاداة الفنية في أحدث ما لبسته في الإبداع الغربي، من هذه المزاوجة كان الطيب صالح. ..«عبد الله الطيب والطيب صالح ومعاوية محمد نورومحمد عشري الصديق» جميعهم اطّلع على الثقافة الغربية، وظهر ذلك في كتاباتهم، لكن الى أي مدى طغت هذه الثقافة على العربية؟ الطليعة المؤثرة لا بد ان تكتسب الثقافة الموروثة وان تتقنها وان تتشرب بروحها، الى جانب ذلك لا بد ان تكتسب الثقافات المعاصرة وان تتقنها وان تنفذ الى خصائصها.. فالذي يتقوقع في القديم يخرج عن التاريخ، والذي يتشبث بالحديث الوافد لن ينفذ الى أعماق مجتمعه فيخرج عن التأثير، هذا قانون في تفاعل الثقافات عبر التاريخ... الثقافة الإسلامية أبدعت حين انشأ المأمون بيت الحكمة، والثقافة الرومانية والإغريقية أبدعت حين اتصلت بالثقافة العربية الإسلامية في الأندلس وعبر الحروب الصليبية، «عبد الله الطيب» و«الطيب صالح» كلاهما أتقن الموروث واكتسب ثقافة حديثة ولهذا كان تأثيرهما كبيرًا.. «محمد عشري الصديق» و«معاوية محمد نور» اخذا قدرًا من الثقافة الموروثة وأوغلا في الثقافة الإنجليزية فأنتجا إنتاجًا طيبًا، لكن يؤخذ عليهما انهما لم ينفذا الى الثقافة العربية بقدر يكافئ ايغالهما في الثقافة الإنجليزية مما قصر بهما ان يكونا مثل استاذهما العقاد الذي اتقن الثقافتين. بروف حمدنا الله من صادقت من الأدباء؟ لديَّ علاقة ودودة مع اكثر الادباء في السودان دون ذكر الأسماء. مقاطعة له: كيف كانت علاقتك بعبد الله الطيب؟ كانت تربطني به علاقة جيدة إلا أنني كنت أنظر إليها كعلاقة الأستاذ بطالبه. وعربيًا من صادقت من هذه الفئة؟ في مصر تربطني علاقة قوية بعدد مقدّر من الأدباء، حيث كنت عضوًا في ندوة «العقاد» ولذلك كنت ألتقي عددًا منهم مثل: علي هيكل ومحمود محمد شاكر وزكي نجيب محمود وعامرالعقاد» وغيرهم من أعضاء رابطة الأدب الحديث.