السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العقَّاديون السودانيون العشرة

لمصر المباركة تأثير ثقافي كبير على بلادنا لا ينكره الا من لا يبصر ولا يرى كما قال العباس في حال من ينكر فضل مصر على الورى، وإلى عهد قريب كان مثقفو الطلاب في المدارس الثانوية السودانية ينقسمون الى فريقين عقاديين وطاهويين «نسبة الى طه حسين» ويهمنا ان نتحدث الآن عن فضل امام الفكر العقاد على بعض كبار افراد النخبة الثقافية والادبية السودانية.
فمنذ ان كان العقاد في العقد الرابع من عمره كانت اشعاعاته القوية تصل الى السودان وتستقر في عقول النخبة الرائدة. وعندما حل بالخرطوم في عام 1940 وجد الخريجون ورواد دار الثقافة يعرفونه جيدا ويحاورونه ما استطاعوا، واحتفلوا به وعاونوه على جميع المراجع لتأليف «عبقرية عمر» كما ذكر في صدر ذلك الكتاب. وانعقدت اواصر الصداقة بينه وبين عدد من كبار الادباء والناقدين وتتلمذ الكثيرون عليه في كتبه ومقالاته وندواته.
وكم نود اليوم ان ينهض طالب دراسات عليا نابه ليكتب لنا بحثا عميقا ناضجا في تاريخ الفكر والادب يلاحق فيه تأثيرات العقاد في عقول عدد من كبار علماء وأدباء السودان وشعرائه. ونرشح له هؤلاء العشرة الكبار. وبالطبع فيمكن للطالب ان يزيد او ينقص منها من عينة البحث كما يشاء ولكنا على سبيل الاعانة نذكر هؤلاء.
محمد أحمد محجوب
في تقديرنا ان محمد احمد محجوب هو اشد السودانيين تأثرا بالعقاد، وامتزاجا بفكره وادبه، وقد بدا ذلك واضحا في اسلوبه المحكم وافكاره العميقة الواضحة الخالية من الالتباس. ومنذ ان ظهر المحجوب على ساحة النقد الادبي فقد ظهر ناقدا مستويا على القمة ولم يلاحظ القراء ادنى نواحي ضعف في فكره او في لغته، وكان لصحبته الطويلة لكتب العقاد الفضل في تمكنه الفكري والنقدي، وما كان المحجوب ليأنف من ابداء اعجابه بإمام الفكر العقاد بل كان يطرب عند ابدائه لذلك الرأي وتكاد تتقمصه حماسة سيد قطب، لاستاذه العقاد. وعندما التقى المحجوب وهو رئيس وزراء السودان بزعيم مصر عبد الناصر سأله ماذا فعلتم للاحتفال بذكرى العقاد؟ قال عبد الناصر: لا شيء. فرد المحجوب قائلا: لو كان العقاد سودانيا لفاخرنا به العالمين.
وكم كنا نتمنى ان لو اقتفى المحجوب خطى العقاد في الانسحاب من عالم السياسة الى دير الفكر، فقد طلق العقاد الوظيفة الحكومية غير آبه وخرج على عالم السياسة الحزبية غير آسف وتفرغ لانتاج غرر الفكر والادب التي ستبقى ما بقى الزمان.
ان آثار العقاد على المحجوب فيما يبدو اقوى بكثير في مجال النقد الادبي منها في الشعر. فمطالع مقالات المحجوب المجموعة في كتاب «نحو الغد» وهو ما نشره المحجوب في مجلتي «النهضة» و«الفجر» يستطيع بسهولة ان يلاحظ اثر العقاد البين عليه. اما شعر المحجوب فانا لم نر فيه تأثيرا يذكر اما شعر العقاد، فقد كان الشعر المحجوبي تراثيا قويا يعتني بنسج الديباجة المشرقة وتقل فيه الالفاظ النثرية المباشرة التي افسدت بعض شعر العقاد، ولا نستطيع ان نقول ان شعر المحجوب في الجملة افضل من شعر العقاد، ولكنا نقول انه مختلف عنه وغير متقيد بفلسفة العقاد الشعرية واقرب منه الى شعر جرير وذي الرمة والجاهليين.
محمد محمد علي
ومن عقاديي السودان الكبار الدكتور محمد محمد علي الذي تتلمذ مباشرة على العقاد حيث دأب على حضور ندوته يوم الجمعة بداره. وكان محمد محمد علي حينها يدرس لأخذ شهادة الماجستير بإحدى جامعات القاهرة. ومن يطالع مجموعة المقالات النقدية لمحمد محمد علي تلك المقالات التي اعطاها عنوانا متواضعا «محاولات في النقد» يدرك انحياز هذا الكاتب الشديد ناحية العقاد واقرأ مثلا هذه القطعة النقدية المحترمة لمحمد محمد علي وهو يلاحي الدكتور محمد النويهي: «اني من اشد الناس مقتا للتقليد والمقلدين، ولذلك تراني دائما اعيب على الدكتور النويهي ايمانه العميق بشوقي وتلقيبه اياه بأمير الشعراء كما يفعل عوام الادباء. ولو تمعن الدكتور لما وجد للشعر اميرا. فالشعراء الاصلاء دعك من المقلدين، لا يغني فيهم شاعر عن شاعر، لأن كل واحد منهم يكشف عن النفس وعن الحياة. بوجه عام جانبا، لا ينوب عنه في وصفه امير او مأمور» فمحمد محمد علي يجاري العقاد في ابرز اخطائه حيث انبرى لنفسيه شوقي والحط من مكانته وان امكن تحطيمه، ذلك مع ان شوقي لم يكن اميرا للشعراء وحسب وانما امبراطورا لهم توجوه عن رضاء وما اظن ان الضاد ابرزت شاعرا ملهما مثله من قبل ولا من بعد.
ولا يعني هذا المقتطف من آثار د. محمد محمد علي انه كان متطرفا في آرائه النقدية بل كان بصيرا وحصيفا ودقيقا غاية الدقة فكره وتعبيره ولكنها لوثة احتقبها من عداوة العقاد لشوقي ولعله يرى منها عن بعد لأن هذا المقال يرجع عهده الى خمسينيات القرن الماضي.
ولمحمد محمد علي قصيدة جليلة بارعة من عيون الشعر رثى بها استاذه العظيم العقاد يلزمنا ان نقف على ابيات منها يقول فيها:
لهفي على منزل شعث جوانبه
بالعلم والفن لا بالتبر والماس
لهفي على منزل كنا نحف به
كأنه حرم او قدم اقداس
لهفي على نبرة الجبار طائفة
تقسم النور صرفا بين جلاس
كأنما طوع الله النجوم له
فقادها زمرا من غير امراس
كذلك القلم النوري تمسكه
انامل جبلت من سطوة الباس
تفض محبس الينبوع لمسته
فيورق العود من عار ومن كاس
اقام بالدير يبني صرح خالدة
ما رام وفرا ولم يأبه بافلاس
وراهب الفكر في محرابه كلف
بالدرس يجمع اجناسا لاجناس
حتى يؤلف منها ضوء شارقة
لم يضنه قبس من بعد اقباس
زفت له النفس من اسرارها صورا
ظلت محجبة عن سائر الناس
والشعر اهدى اليه وهو فارسه
عذراء ما برزت يوما لفراس
معاوية محمد نور
وقد كان معاوية محمد نور اقوى تلاميذ العقاد في السودان. وقد درس معاوية آثار العقاد دراسة فاحصة كما اغترف من ذات المنابع التي اغترف منها العقاد من دراسات النقد الادبي الانجليزي. ولم يكن معاوية مجرد تلميذ للعقاد بل كان صديقا مقربا اليه يحاوره حوار صفوة من المفكرين الانداد وقد كتب معاوية عن بعض ادق نواحي العقاد مقالة عن «القالب في شعر العقاد» وغير ذلك، ولعل العقاد كان يرشح معاوية لخلافته لو طال به العمر، وهو القائل عن معاوية: «لو عاش معاوية لكان نجما مفردا في سماء الفكر العربي». بمعنى انه كان سيتفوق على استاذه الكبير العقاد. والاعمال الكاملة لمعاوية تنبيء عن عظيم الشبه ما بين عقائده وتوجهاته الادبية ونظائرها عند العقاد. ويمكن للبحث المقارن في هذا الشأن ان يدلنا على ما تأثر به معاوية من العقاد وما اخذه رأسا من المنابع التي استقى منها العقاد.
لقد كتب العقاد قصيدة مؤثرة في رثاء معاوية محمد نور، لعلها في ديوانه «اعاصير مغرب» وعندما زار العقاد السودان حرص على ان يمضي رأسا من محطة القطار الى المقابر التي تحوي جسد معاوية فوقف عنده وترحم عليه ووضع باقة من الزهر تعبر عن شديد حبه لتلميذه اللامع الاثير.
أحمد عبد الله سامي
والدكتور الشاعر الناقد احمد عبد الله سامي عقادي كبير آخر اسهم في التدريس بجامعة ام درمان الاسلامية وترك آثارا عقلية طيبة في طلابه النجب وخلف مقالات ادبية كثيرة وكتابا نقديا عن التجاني يوسف بشير طبق فيه مقاييس مدرسة العقاد في النقد الادبي، وهي المدرسة التي كانت تسمى «الديوان» وتتألف من المازني وشكري بجانب العقاد، الا ان العقاد غدا اكبر من المدرسة كلها. وقد ترك الدكتور سامي ديوانه «الرمال الظامئة» كأثر شعري كبير استنار بنظرة العقاد لاصول الشعر ومهمة الشاعر في الحياة. ولم ينصف الناقد الكبير الدكتور عبد المجيد عابدين في تقديمه لديوان سامي عندما ذكر انه شاعر مجدد وقصر ملامح تجديده في تنويع القافية وفي بعض قصائده وفي العناية البالغة بالشعر الوجداني وفي سلاسة التركيب وترسله. فهذا قصور في تقصي ملامح التجديد في شعر سامي وهو القصور الذي دفع بعابدين الى ان يدرجه في الاتجاه الذي اسماه بالكلاسيكية المجددة. وهو حكم قد لا يقره دارس يتعمق في فهم شعر سامي ويدرك اثر العقاد العميم عليه. وهو ما يمكن ان ينجزه طالب هذه الدكتوراة ان صبر وكد في البحث.
يوسف مصطفى التني
والاستاذ يوسف مصطفى التني أثر آخر من آثار العقاد، وقد نافح التني متسلحا بافكار العقاد عن نزعة الادب القومي اي المعبر عن خلاصة الثقافة العامة للامة بعيدا عن التقليد الاعمى للثقافات الاعجمية وما هو دونها. ونظم التني شعرا كثيرا بعضه عاطفي وبعضه وطني والبعض الآخر صوفي وضمنه «ديوان التني». وقد اخطأ عميد الادب العربي الدكتور عبد الله الطيب حين قام بتحليل احدى قصائد التني العاطفية وذلك في كتابه «التأسيسي» المرشد ونصب القصيدة الى تأثيرات رافعية ومن يقرأ القصيدة بتدقيق لا يمكن ان يرد تلك الاخيلة الا الى اثر العقاد فهي ابعد ما تكون عن الرافعي واقرب ما تكون الى العقاد.
ودعوة العقاد الى الصدق في التعبير عن الذات طبعت شعر التني العاطفي والوطني والصوفي، فكله تعبير عن الذات وانسجام بالغ مع ثقافة الوطن. وقد كان التني بحق من اصدق افراد النخبة السودانية واكثرهم تفانيا في حراسة القيم واصطبارا على اعباء الريادة الوطنية.
حمزة الملك طمبل
وصلة حمزة الملك طمبل بالعقاد من اغرب الصلات، فقد تتلمذ عليه عندما كان معلما في اسوان وانطبع بأثره وهو صغير ثم انطبع بأثره وهو كبير عندما اطلع على افكار مدرسة «الديوان» «وثابر على حضور ندوة العقاد بالقاهرة،» وسار على اثر دعوة العقاد على جملة التراث العربي داعيا لاقتلاعه من الجذور كما اقتلع الانجليز جل الرم والطم حين ابتنوا خزان سنار، ونشر طمبل مجموعة من المقالات في مجلة «الحضارة» اسمها «الادب السوداني وما ينبغي ان يكون عليه» وكان عمادها تلك الدعوة الثورية، وجعلها مقدمة لديوانه الذي اسماه «ديوان الطبيعة»، وزعم طمبل انه اقل راديكالية من استاذه العقاد، ولم يبرهن على ذلك، ومثال خزان سنار السالفة الاشارة اليه لا يسند دعوته في الاعتدال.
ومهما يكن فقد كان لطمبل دور مفصلي في توجيه الادب السوداني بتنظيره الذي يمثله قوله «ان الشعر كما يفهمه عامة الناس هو كلام موزون مقفى، لا فرق في ذلك بين الفية ابن مالك والقصيدة الرائعة للاستاذ العقاد. وذلك لأن الكثيرين من قراء الشعر ومحبيه لا سيما في هذا البلد، لا يكادوا يعرفون الفرق بين النظم والشعر مع ان الفرق بينهما يكاد يكون كالفرق بين الشخص الذي يتمتع بالحياة وبين تمثاله المنحوت من الرخام! هذا جسم له روح يغمرها الاحساس بالحياة وهذا جسم لا روح فيه، اما الشعر الحقيقي فهو صورة حقيقية لنفس الشاعر كاملة في كل شعره لا في قصيدة واحدة من قصائده، اذ ان القصيدة الواحدة انما تعبر عن خلجة من خوالج النفس او اثر من آثار الاعراض الظاهرة في باطنها، فهذا رأي حصيف ناضج، وهو ولا مراء من انتاج حمزة الملك طمبل، ولكن لا مراء كذلك في اثر العقاد في هداية حمزة اليه.
محمد عشري صديق
وممن استفادوا من نظريات العقاد الادبية وصدروا عنها الاستاذ الكبير محمد عشري صديق صاحب كتاب «آراء وخواطر» الذي كتب مقالاته لمجلة «النهضة» وأثار بها قضايا التجديد الشعري وهاجم من دعاهم بدجاجلة الشعر المدعاة والالهام الغائم ودعا الى مقارعة هؤلاء الشعراء «الرجعيين» وتقويض دولتهم القائمة على سلطان العواطف والافكار التي تحدها تصورات اقوام واساليب امم ذهبت الى مهد القبور.
ومحمد عشري صديق كان ضليعا في اللغة الانجليزية كمعاوية محمد نور وان لم تكن له سعة اطلاعه. ولكنه اطلع على كل حال على مدارس الشعر الانجليزي، وتعرف على مذاهبه مليا، فكان تأثره بالآراء النقدية للعقاد تاليا لتأثره بمدارس النقد للعقاد تاليا لتأثره بمدارس النقد الادبي الانجليزي. وقد نظر الاستاذ عشري نظرة تأمل فاحص في شعر العقاد وتوقف كثيرا في تحليل قصيدة العقاد «ترجمة شيطان» وعد العقاد شاعرا عالميا كأبي تمام وبشار وشيلي وكوبر وانتهى الى انها قصيدة مفردة لا ثانية لها في شعر الضاد وأن معانيها لا ترد الا في العقول الجبارة الثائرة حيث تلاقت فيها شهوات السياسة وتجريدات العقل المحض وتهويمات الفن السامي.
ورأى الاستاذ عشري في قصيدة «ترجم شيطان» شبيه برأيه في العقاد لكل، فهو القائل ان العقاد صنع ما لم يصنع غيره وجاء بدليل على ان دعوة التجديد لم تقم منذ بدايتها الا على اساس متين وأمل كبير. ولو كان معاصروه او من سبقوه من شعراء الشرق العربي قد احلوا هذا النوع من الشعر مكانه الجدير به، او لو فهموه لكان من المحتمل ان يحاولوا النظم فيه، ولن يتأتى لهم ذلك الا بفهم العقاد.
محمود الفضلي
ومحمود الفضلي احد ابكار الخريجين ممن اجادوا الانجليزية واتخذوها وسيطا للتعرف على الآداب الاوروبية ورحابة نظرتها الى الحياة، وراق له ان يجد صدى تلك الآداب في مدرسة «الديوان» وعند العقاد بخاصة. وكان الفضلي مغرما بقراءة العقاد اديبا وسياسيا، اذ كان الفضلي سياسيا مناضلا في مؤتمر الخريجين وحزب الاشقاء والحركة الاتحادية المتأثرة بحزب الوفد الذي انتمى اليه العقاد فترة في صدر شبابه ثم نبذه ونبذ الاحزاب جميعا نبذ النواة.
وللفضلي غرام شديد بشعر العقاد وكان يحسن الترنم به. وقد روى حسن نجيلة قصة القائه للبائية من شعر العقاد التي ابكته، وروى باشري ان العقاد استزاده فانشد من الميمية التي تتحدث عن الفستان الازرق، وذكر ان الفضلي اشترك في مهرجان العقاد بكلمة وقصيدة وان العقاد اثنى على شعره ونثره ووصفه بالاستاذ!
وقد تاح لكاتب هذه السطور ان يلقى الاستاذ الفضلي بالقاهرة في اواسط ثمانينات القرن الماضي وان يستفيد منه علما. وجاء ذكر العقاد والمسلسل التلفازي الذي صدر عنه وصور الفضلي في صورة لا تليق فثار لذلك عن حق وابرق الى حاكم مصر يطلب منه ايقاف ذلك المسلسل المستخف بقدره العظيم.
محمد ابراهيم ابو سليم
والدكتور محمد ابراهيم ابو سليم ليس اديبا بالمعنى المتعارف عليه لهذه الكلمة، وليس مفكرا بالمعنى النظري الذي يتبادر الى الذهن، وانما هو باحث في التاريخ. ولكنه ما كان سيكون باحثا عظيما يصل الى ذروة الاجادة ويقف في صف واحد مع كبار المؤرخين العالميين، لولا انه كان مزيجا من الاديب والمفكر وانه سخر اقتداره الادبي والفكري لمصلحة البحث التاريخي فتيسر له الابداع الرفيع في اكثر ما سطره من مباحث قيمة ملؤها الفكر الوقاد الثاقب والتعبير الجزل المتين.
وربما كان ابو سليم هو السوداني الوحيد الذي تهيأ له ان يقرأ كل كتب العقاد. ولا نعرف شخصا آخر ادعى هذه الدعوى ولا حتى صديقنا الاستاذ الكبير محمد عثمان ابوزيد. ولا شك ان من يتوفر على قراءة مجمل تراث العقاد قراءة التقدير والتبجيل والرغبة في الاستفادة سيخرج بمحصول وفير من درر الفكر الكبار.
ونظن ان هذا الفصل في دراسة الدكتوراة سيكون اصعب الفصول وسيتعين على الطالب ان يبدي براعته في استشفاف ملامح تأثر هذا العالم المؤرخ بالعقاد، اذ لم يكتب ابو سليم في النقد ولا في الشعر وانما في فن آخر كتب فيه العقاد كثيرا ولكن ليس بطريقة التفصيل التاريخي، وانما بطريقة التحليل النفسي لابطال التاريخ وعباقرته.
أحمد محمد البدوي
ومن علماء السودان وأدبائه الاحياء يعد الدكتور احمد محمد البدوي استاذ الادب العربي بالجامعات البريطانية احد ابرز تلاميذ العقاد. وقد اختار البدوي لاطروحته التي نال بها جائزة الدكتوراة من جامعة الخرطوم تلميذا بارزا للعقاد ليكتب في نقد آثاره الادبية وهو سيد قطب. ولعل اثر العقاد على سيد قطب شبيه بأثره على البدوي اذ قاد كلاهما بعيدا عن شطط الاشتراكيين والراديكاليين الى نظرة متوازنة الى الوجود.
تخرج احمد محمد البدوي في كلية الآداب بجامعة ام درمان الاسلامية، وكان يقود اتجاها فكريا يساريا ثم ما عتم ان مال الى الوسط بتأثير فكر العقاد وصرامته المنهجية، وقد كتب البدوي عدة دراسات نقدية بعضها موسوعي الطابع ككتابه عن الطيب صالح وهو افضل مرجع في اللغات جميعا عن الطيب صالح، ومنها دراستين عن سيد قطب الناقد، ومؤلفات اخرى كثيرة في النقد الادبي.
وفي طبع البدوي حدة من حدة العقاد وعرام من خصامه، ولو مزج البدوي حدته بشيء من الطرافة لكان شبيها بزكي مبارك. هذا ولم يكن البدوي بعيدا من التأثر بأديب كبير لم يكن مستلطفا من قبل العقاد ولا سيد قطب وهو العلامة الشيخ محمود محمد شاكر والبدوي شديد الاعتزاز بتأثره به وهذا مما يدل على انه ابعد ما يكون عن التعصب الأعمى للعقاد.
عبد الله حمدنا الله
ونرشح للاشراف على هذه الدراسة عن تأثير العقاد في أفكار النخبة السودانية العقادي المقتدر البروفسور عبد الله حمدنا الله استاذ الدراسات العليا بجامعة افريقيا العالمية، والذي يدعونا لترشيحه انه عقادي مستوعب لفكر العقاد وأدبه، وفوق ذلك فهو متزن ومستقل الذوق والفكر وغير مماليء للعقاد ولا متعصب له ضد خصومه كما هو الشأن في بعض العقاديين.
ويتعهد هذا العبد الضعيف بعون الله بعون طالب العلم الجاد الذي يأنس في نفسه الكفاءة لانجاز هذه الدراسة، وذلك بمده بالمراجع من كتب، ومقالات وبتوجيهه ومنهجة افكاره اثناء الكتابة. ذلك أن مجالنا الأكاديمي لا يسمح بأكثر من ذلك لأنه يقع أبعد ما يكون عن هذا المجال الشائق من مجالات النقد الأدبي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.