ذكرت فى الحلقة الثانية أن الدولة في الإسلام تقوم على ركنين، الأول استمداد التشريع من الله والثاني استمداد السلطان من الأمة، فلا توجد فى دولة الإسلام سلطة تشريعية لكن يمكن أن يتولى مجلس الشورى سلطة التقنين لا التشريع والتقنين يعني وضع الشرائع والأحكام في قوالب قانونية تسهل على القاضى أو السلطة التنفيذية العمل بها، وتبين ما تبنته السلطة من مواقف فى القضايا الخلافية واستمداد السلطان من الأمة يعني أن يكون الحاكم منتخباً لا متسلطاً بوراثة ولا انقلاب، وهذان الركنان يقوم عليهما الحكم الإسلامي إذا علمت هذا أخي الكريم فتأمل: كان الصحابة يعذبون في مكة وتتوالى على ضعفائهم سياط قريش، بل قتلت منهم النساء وهاجر منهم الشباب والرجال، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وأصاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الأذى ما أصابه، فمات نصيره من أهل الأرض عمه وزوجته، واستصرخ الضعفاء رسول الله عليه الصلاة والسلام، ألا تدعو لنا ألا تستنصر لنا، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يعرض نفسه على القبائل يطلب النصرة ويبحث في إقامة الدولة التى يأوي إليها المؤمنون، وهنا تلتقيه قبيلة كنانة بعد سبع سنوات من البعثة تعرض عليه النصرة والمنعة والحماية وإقامة الدولة، ولكن بشرط !! تنبه ولم يكن الشرط يتعلق بالتوحيد والحاكمية ولا بعرض شرعة رسول الله على برلمان كنانة ولا بمشاورة زعماء كنانة قبل إصدار حكم بالتحريم أو التحليل، ولم يكن الشرط يتعلق بالديمقراطية القائمة على حاكمية الشعب وجعله مصدر جميع السلطات، فهذا كله نقض لكن الدولة الأول!! وإنما تعلق الشرط بالركن الثاني لإقامة الدولة السلطان للأمة فطالبت كنانة باحتكار قيادة الأمة بعد وفاة رسول الله بلا انتخاب ولا مشاورة أحد فقالوا «سنحميك مما نحمي منه نساءنا ولكن بشرط أن يؤول إلينا الأمر من بعدك» فأرادوا أن يكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن منهم الخلفاء والأمراء مع بقاء التشريع لله فى الدولة والسيادة لرب الأرض والسماء، فرفض رسول الله هذا الشرط، ورد عليهم عرض النصرة وهو أحوج ما يكون إليه وأعظم اضطراراً إليه من ضرورة مدعاة للسجود لوثن الديمقراطية، وبقي أصحابه في العذاب والمطاردة والتشريد ستة أعوام أخرى حتى نصره الأوس والخزرج عام ثلاثة عشر بعد البعثة، فانظروا إلى هذا الموقف المبدئي تجاه مفهوم الدولة وطبيعتها، وانظروا إلى هذه الصلابة في عدم التنازل عن ماهية الدولة فى الإسلام، فأين فقه المصلحة والمفسدة هنا؟ وأين الحنكة السياسية المدعاة، وقد رفض رسول الله عرضاً هو أقل مما قبله الإسلاميون الديمقراطيون اليوم عندما اعتنقوا دين الديمقراطية، فقبلوا بقواعد اللعبة أن تعرض أحكام الله وشريعته على الشعب، فإن قبلها كانت دستورية وإن رفضها فمكانها رفوف المكتبات ومعاهد العلوم الشرعية في تفيقه ساذج ودراسة بليدة !! أيها الديمقراطيون الإسلاميون أنتم على خطر عظيم إن لم تزجركم نصوص القرآن والسنة وما ذكرنا من براهين وحجج، فلتزجركم تجارب أخذت من دينكم وتوحيدكم أكثر مما أعطتكم، وقد ولجتم هذا الجحر فلم تجدوه نظيفاً، كما تصورتم، وها أنتم فى مصر وتونس من أزمة إلى أزمة ومن رهق الى رهق.. ايها الإسلاميون الديمقراطيون إني أبرأ إلى الله من ما صنعتم!! إن ميثاق الفجر الإسلامي هو الطريق الثالث بين علمانية حاقدة محاربة لله ورسوله وإسلام ديمقراطي معتل ليس له من الإسلام إلا هتافه ومن الدين إلا شعاره، قدم أسوأ أنموذج للإسلام بتشويهه أحكامه وتلفيقه لمواقفه.. إن ميثاق الفجر الإسلامي لمواجهة ابتلاءين، الأول حرب أولئك على الدين والثاني تشويه هؤلاء للدين.. إنه رؤية سياسية شرعية راشدة لتصحيح مسار الربيع العربي وجعله ربيعاً إسلامياً على أسس جديدة وقواعد للتدافع السياسي مختلفة!! فيا شباب الإسلام شمروا عن سواعد الجد وتفقهوا في دينكم وتسلحوا بأدوات المعركة الفكرية والسياسية، وتعاونوا وتناصروا واجتمعوا لخوض معركة التبصير والتوعية، فالمعركة معركة فكرية قبل أن تكون سياسية، وعدم خوض هذه المعركة وإنجازها يجعل تجارب شعوبنا يتمخض جبل ثوراتها فيلد فأر الدولة القطرية العلمانية نفسها، لأن حقيقة كبرى غابت أو مغيبة والبعض مع علمه بها لا يقر بأنها كبرى ومهمة، وهى أن قالب الدولة الوضعية الموروثة من الاستعمار بعقده الاجتماعى الوطنى القائم على السودانوية أو المصراوية أو التونساوية وبسلطاته الثلاث التشريعية والتننفيذية والقضائية، وبعلاقاته الخارجية المكبلة بمواثيق الأممالمتحدة، لا يمكن على الإطلاق أن يتم «صب» دولة إسلامية «صباً» فى هذا القالب من غير تقويض هذا القالب وإقامة قالب جديد للدولة على أسس جديدة ذكرتها فى خطبة جمعة بمسجد المعراج الطائف مربع «51»، ومقالة بعنوان رسالة إلى الثوار ماذا يعني تطبيق الشريعة؟ والخطبة والمقالة موجودتان على الانترنت بالعنوان المذكور، وهذه الحقيقة غيابها هو الذى أدى وسيؤدي الى فشل أية تجربة للحكم بالإسلام، لأنها محاولة لإقامة الشريعة فى قالب غير نقي ولا طاهر فتتشوه معه الأحكام وتخرج من محاولة الصب هذه، وقد تغير لونها وطعمها ورائحتها!! السودان بين ثلاثة خيارات: فى ظل هذه الرؤية الداعية لمسار جديد لإصلاح أوضاعنا الدستورية فى منطقتنا الإسلامية والتحول من الشرع المبدل والمؤول إلى الشرع المنزل، فإن السودان أقرب دول المنطقة لإحداث هذا الإصلاح إن نهضت له ثلة مؤمنة عميقة فكرياً وواعية سياسياً وحكيمة حركياً وصلبة في المبادئ والمواقف، وما يجعل السودان أقرب دول المنطقة لنيل هذا الشرف الأسباب الآتية : 1/ الخطاب السياسي الإسلامى في السودان أعظم حضوراً من سائر دول المنطقة، وإذا أجريت مقارنة بين السودان ودول الربيع العربي مصر وتونس وليبيا لوجدت هذه الدولة تعمل جاهدة وبشق الأنفس لبلوغ ما نحن فيه من شرع «مدغمس»، ولم يستطيعوا بعد مع تعنتات العلمانية الراسخة شعبياً وليس نخبوياً فقط. 2/ العلمانية في السودان نخبوية لا شعبية، ولم تستطع الأحزاب العلمانية الصارخة صناعة تيار شعبي عريض والحزبان الكبيران سابقا الأمة والاتحادي لم يستطيعا بلوغ ما بلغاه إلا بقاعدة دينية الأنصار والختمية. 3/ العلمانيون فى السودان ذيل بلا رأس، فلا يوجد مفكر علماني سودانى له تأثيراته الإقليمية أو العالمية، ولا يوجد مفكر علماني سوداني له إنتاجه الفكري العلماني الذي تحفل به مجالس العلمانيين في المنطقة العربية، فالعلمانيون السودانيون حتة مثقافتية لم يستطيعوا نحت أسمائهم فى جدار العلمانية الإقليمية، ولم يستطيعوا كذلك نحت أسمائهم فى جدار الوطنية وهم يتخابرون مع الدول الغربية!! 4/ النميري وليست الإنقاذ قطع شوطاً كبيراً في اتجاه التقنين، فمنع البارات وأغلق بيوت الدعارة وحرم المعاملات الربوية فى البنوك، ومضت الإنقاذ على ذات الأمر وحافظت عليه رغم الضغوطات، فمن ناحية التقنين ومنع ما حرمه الله، هنالك شوط قطع، فنحن لن نبدأ من الصفر كما يريد إسلاميو مصر وتونس، وهذه حقيقة لا تخطئها عين ولا يكابر في إثباتها إلا جاحد، فالمشروع الإصلاحي هنا لاتمام صالح الأخلاق وإكمال مكارم الأخلاق وليس لتأسيسها ابتداء فى ظل هذه الحيثيات السودان بين ثلاثة خيارات: 1/ إصلاح أو تغيير «هادئ » ولن يكون ذلك إلا عبر غيارى الداخل والمخلصين من أبناء الحركة الإسلامية، ومعهم ومن خلفهم وسند لهم التيار الإسلامي العريض بمختلف مشاربه الفقهية واختياراته المذهبية، فهم فى محيط إسلامى هادر يدعو للإصلاح. 2/ استمرار الحال على ما هو عليه من «الدغمسة» والتراجع والتنازلات حتى تقع البلد كلها فى هاوية المشروع العنصري العلماني بترتيب عن جهالة أو عمالة وتنسيق متعمد أو بليد!! 3/ فوضى تحت أية راية وبأي شعار، وستكون عندئذٍ فوضى مسلحة فى بلد لكل قبيلة فيه جيش وفى كل حارة سلاح مكدس، والقادرون على اقتطاف ثمرتها المغول الجدد من علمانيي وعنصريي السودان الجديد، لأنهم الأكثر حشداً والأكثر تنظيماً، وجيوش النيتو في انتظار التدخل تحت دعاوى إنسانية إذا انفرط عقد الدولة!! وفى هذه الحالة الرؤى التي وقعت لمئات من الناس عن خرطوم تقصف ودماء تسيل ومطاردات من شارع الى شارع، هذا المنام الذى كنا نأمل أن يكون كابوساً فننصح من يراه أن يتفل عن يساره ثلاثاً سيصبح واقعاً!! ولعل بعضكم رأى مثله والله يستر!! أما مشائخنا الكرام فأقصى ما فعله البعض التوقيع على ميثاق الفجر الإسلامي أمام الكاميرات، ثم راح فى برامجه الدعوية ودروسه الفقهية، ولم يأخذ الميثاق بحقه مشروعاً للإصلاح والنذارة قبل وقوع الكارثة الماحقة!! والجماعات الإسلامية اليوم فى السودان فى أضعف حالاتها بفعل عملاء المشروع الصهيوني الذين عملوا على إضعافها وتمزيقها وتفتيتها، وأنا قريب منهم جميعاً أعرف مشكلاتهم التنظيمية وتكتلاتهم داخل التنظيم الواحد!! أمة يحد الجزار شفرته ليذبحها من الوريد إلى الوريد، وهي معتركة في خلافات فقهية ومتصارعة على تقديرات تنظيمية!! يا مخلصي الحركة الإسلامية انقذوا إنقاذكم التي ستهلكنا جميعاً!!