كتب شارلي شابلن رمز الفنّ العبقريّ الجميل، قصة حياته في صورة اعترافات حزينة، في لحظات أعقبت إشراق شمسه، ونجاحه الأسطوري الساحق. وذلك لكي يضع رأسه في حجمه الطبيعي!. في حلقات متلاحقة سنقلب صفحات من حياة شابلن، ينبعث منها عطر شارلي، في الإمتاع والصراحة والعفوية والإنسانية العميقة، في تطوُّر عبقريته وقضايا فنِّه، وصداقته آينشتاين ولقائه ماوتسي تونج، وتألُّقه المضيء، الذي انتهى بطرده من أمريكا!. بمناسبة (عيد الأم) نقدم هذه الحلقات التي تبرز علاقة شارلي بأمِّه. كانت أمّ شابلن بالنسبة إليه، كالبسملة في حياة المسلم، فلا يبدأ حديثاً إلاّ بها. كانت تتردّد في حياته، كما يتردّد الضوء في مصباح (النيون). مبارزة الفقر بإبرة خياطة! فقدت أمِّي صوتها، وخسرت عملها. وكتحوُّل الخريف إلى شتاء، تحوّلت حياتنا وأحوالنا من سيء إلى أسوأ، فقد نفذ سريعاً ما ادخرته أمّي من مالٍ قليل، وهي امرأة مدبِّرة محتاطة. ورهنت ممتلكاتها الصغيرة ومجوهراتها، كلّ ذلك بأمل أن تسترجع صوتها. وفي تلك الأثناء كنَّا نتجوّل متدهورين في بيوت الإيجار، من بيت بثلاث غرف إلى غرفتين ثم إلى غرفة واحدة، ويتحوّل الجيران تبعاً لذلك من مستوى إلى آخر أدنى. ولجأت أمّي إلى الدِّين بأمل أن يعيد لها صوتها. فبدأت تذهب بانتظام إلى الكنيسة كل يوم أحد. كانت تصحبني معها، حيث أجلس أستمع إلى موسيقى (باخ) من (الأورغن). كنت أشعر بضيق وملل من سماع موعظة القسيس (مئير) وصوته الجهوري الدرامي يجلجل في ردهات الكنيسة. وشعرت بالراحة عندما أغلق القسيس الإنجيل إيذاناً ببداية نهاية البرنامج. ومنذ أن انضمّت أمّي إلى الكنيسة، كانت قليلاً ما ترى أصدقاءها من عالم المسرح. فقد تبخر ذلك العالم، وأصبح ذكرى. وعشنا بعدها في ظروف متشرِّدة، فأزمة السنة الواحدة، كانت تساوي حياة بحالها، حتى انزوينا في غرف عارية عن كل بهجة. كان من الصعب الحصول على وظيفة، وأمّي التي لم تتلقَّ تعليماً أو تدريباً في أي شيء، سوى المسرح، أصبحت معوَّقة تماماً. كانت صغيرة الحجم، حسّاسة، تصارع حالة فقر مرعب، اتضحت فيه الفروق تماماً بين الفقر المدقع والثراء الفاحش. ولم تكن لنساء الطبقات الفقيرة سوى الحياكة والخياطة. وأصبحت إبرة الخياطة هي مصدر أمّي للحصول على بعض (الشلنات)، التي كانت تحصل عليها من خياطة ملابس أعضاءالكنيسة. وقد كانت تجيد أعمال الإبرة، ولم تكن (الشلنات) القليلة كافية لإعاشتنا نحن الثلاثة. فبدأت أمّي تبيع ممتلكاتها. وكان آخر ما باعته زيّها المسرحي. وفي البيت كانت أمّي تحكي لي قصص (العهد الجديد)، وحبّ المسيح للفقراء والأطفال، وتمثِّل لي بعض القصص بطريقتها المتفرِّدة في التمثيل. فأعطتني أروع الصُّور جاذبيّة عن المسيح. وحدّثتني عن كراهية كبار الكهّان له، وغِيرتهم منه، وكيف ضربوه ووضعوا تاجاً من الشَّوك على رأسه. وواصلت حديثها إلى أن طفقت تبكي، ودموعها تنحدر على خديها، وهي تروي نداء المسيح في لحظة ألمه العميق: يا ربي لماذا ودّعتني وقليتني وهجرتني؟ فبكينا معاً. لقد حملتني أمّي وذهبت بي بعيداً بقصصها الدينيّة، حتى تمنيت أن أموت تلك الليلة لألتقي بالمسيح. ولكن أمّي لم تكن متحمِّسة لذلك. فقالت: المسيح يريدك أن تعيش وتحقق في الحياة ما أنت مهيّأ له. وهكذا في قاع شارع (أوكلي) في غرفتنا الواحدة، أضاءت لي أمّي أرقّ وأرأف نور عرفه العالم، ذلك الذي يهب الأدب والمسرح أسمي موضوعاتها... الحبّ والرَّحمة والإنسانية.