كم شمخت مجتمعات، و ارتفعت رايات، وسال الخير منهمراً على فئات مختلفة و شرائح من الناس، غير أن تداول الأيام و تعاقب الأجيال، لم يدع مثل هذا الحال كما هو عليه، بل حدث التبدل، و تغيرت الأوضاع بدرجات متفاوتة. و بينما ترتفع درجات الحرارة و تنخفض، و تهدأ النفوس و تضطرب، و تهب الرياح و تسكن، كذلك حال المرء في هذه الحياة الدنيا، و الدوام لله وحده و سبحان الله الذي يغير من حال إلى حال، و تظل الدنيا بكاملها بين أصبعي الرحمن يديرها كيف تكون مشيئته. و التاريخ يحدثنا عن رجال سبقونا، أسسوا بدافع إيمانهم و قوة عقيدتهم، ذلك المجتمع و تلك الدولة الانموذج، في تاريخ البشرية، و هي دولة الاسلام التي ظلت نبراساً و علامة وضاءة في التاريخ الإنساني يهتدي بهديها المهتدون، و يسير على خطاها الذين تدفعهم نحو إقامتها الأشواق الإيمانية، و المجاهدات بالأفعال و الأقوال، و صدق التأسي و الإقتداء. و لو كانت المشيئة القاصرة لبني الإنسان هي التي تحدد الثبات، و تتحكم فيما ينبغي أن يبقى و ما ينبغي أن يزول، لما ضعف الإيمان، و لما أصبحت دولة الإسلام و مجتمعه قد تحولتا من واقع يمشي على الأرض إلى نموذج سامٍ يتطلع نحو تكراره المسلمون، لبذل الجهد إستهدافاً لتبدأ الدورة من تلك القمة بحيث لا تحتاج إلى نهوض يتطلب منها الجهد لاستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير. و لو كانت الحياة تسير على وتيرة واحدة و تعزف أنغامها على نمط تقليدي رتيب، لما سقطت امبراطوريات، و دالت دول، و افلست شركات، و ذل قوم بعد عز، وارتفع صوت بعد خفوته،او دغدغت مشاعر قوم للإحساس بمتعة الغنى، ورفاهية الحياة بعد فقر مدقع، و مرض أدمى شغاف القلوب. و عندما نقول بأن دوام الحال من المحال فإن صورة الواقع ببلادنا تنبئونا بصحة هذه المقولة، و أكثر الذين يوضحونها هم من عاشوا زماناً يذكرون فيه كيف كانت اسرة فلان تعاني، و كيف كانت اسرة علان تغوص غوصاً في بحور من الرفاهية و النعيم، و لكن انقلبت الآية،و تبدلت المعادلة، و تلك هي سنة كونية لا يستطيع احد ان يتحكم في دفتها، و يوجه الرياح حسب الذي يشتهيه، ذلك لأنها رياح مرسلة قد تتجه يمينا أو يسارا، فتمطر مطراً أو لا تمطر ،ذلك لان الله هو الذي ينزل الغيث، و يعلم مافي الأرحام، و ما يخفيه الغيب من أقدار و أرزاق. و جميعآ سمعنا من يقول - دوام الحالمن المحال- لكن في أعماقنا لا نصدّقهذه الحكمة أو نتعظ بها . فالنفسالبشريّة في اعتيادها على النِعم لاتُصدِّق زوالها . لا غنيا يتوقّع إفلاسه ،لاشابا يرى نفسه ذات يوم شيخا. لاحاكما يضع في حسبانه زوال الكرسي وجاه السلطة،لا المعافى المتمتّع بنعمة الصحة يضع المرض في حسبانه،ولاالعاشق يتوقّع فقدان الحبيب ،ولاالحيّ يرى بأمّ عينيه روحه ساعةسكرات الموت . وإن مأساة الإنسانتكمن في عدم تصديقه لزوال النِعم ،لذلك قليلون يستعدّون لخسارتها . وكلّ مايصنع الزهو للإنسان ومباهجه زائل ،لذا وحده المؤمن أو الحكيم ،يتعامل معالشباب والحبّ والصحة والجاه والثراءوالحياة ،كهدايا يمكن لله متى شاءاستردادها . لأنها نِعم يختبرنا بها كينكون أهلا للنعمة الأبديّة ألا و هي الجّنة.