فرق كبير بين التطير والطيران والتطاير مع أن لها جميعاً أصلاً واحداً هو الحركة في الهواء.. التطير.. هو التشاؤم.. وليس هو من همنا في هذا المقال والطيران معروف.. وهو الحركة بجاحنين في الهواء.. ونأتي إلى التطاير.. فنسأل عندما تقول المرأة العاقلة الحازمة الضابطة لابنتها الشابة المراهقة: يا بت ما تطايري.. خليك عاقلة وتقيلة.. فماذا تعني؟ أوعندما تعلق عليها مستنكرة: البت دي مالها متطايرة كده!! فماذا تعني هذه السيدة العظيمة بالضبط؟ هل تعني أن البنت تحولت إلى طاير يطير بجناحيه أم قصدت إلى معنر آخر؟ لابد أنها قصدت هذا المعنى القريب أي أن البنت فجأة وبلا مقدمات تحولت من كائن يمشي على قدمين إلى طائر يطير في الهواء بجناحين.. وذلك كناية عن أن البنت تركت ما عُوِّدت ورُبِّيت عليه من آداب وسلوك وتعقُّل وجلبت قوالب جديدة غير مألوفة وغير معروفة وهي بالتأكيد مستنكرة ومستقبحة والإنسان إذا تحول إلى طبع غير طبعه استُنكر ذلك عليه وكُره منه. ولكن الفاجعة هي أن كثيراً من قياداتنا الاجتماعية والسياسية والفكرية والإعلامية.. يتطايرون بمعنى آخر غير المعنى القريب الذي قصدت إليه هذه السيدة الفضلى الضابطة لأسرتها وأهل بيتها.. أنه معنى مصطلحي لابد له من تعريف؟ إن التطاير عند أهل العلم هو أن تتحول المادة من حالة الصلابة إلى حالة الغازية مباشرة دون المرور بحالة السيولة.. معظم المواد إذا سخنت انصهرت وتحولت إلى مادة سائلة.. وهي تختلف في كمية الحرارة والدرجة التي تجعلها تنصهر وتتحول إلى سائل وكلما احتاجت إلى حرارة أكثر عُرف أن ذلك يدل على ثباتها وتماسك ذراتها ومكوِّناتها الأخرى. ومن المواد التي تحتاج إلى درجة عالية للانصهار التيتانيام ثم الحديد ثم البرونز ثم النحاس ثم الذهب وتتحول إلى مادة سائلة كل عند درجته. أما المواد التي تتحول إلى غاز دون أن تتحول أولاً إلى سائل فمثل اليود والنفتالين والنشادر.. وهي ليست كثيرة.. إن الذي استنكرته المرأة الضابطة على ابنتها مجرد التحول من حالة إلى الحالة التي تليها.. دون أي تجاوز لحالة وسطى بين الحالتين.. من المشي إلى الطيران. إن الذي تفعله بعض قياداتنا هو التطاير والذي يسميه أهل العلم التجريبي التسامي ويقابله بالإنجليزية Sublimation ومصطلح التسامي مناسب ومتوافق عندما يُستخدم للمادة البكماء فحقًا تحول النشادر من صلب إلى غاز يمثل حالة من التسامي أو العلو أو السمو أو الارتفاع.. وذلك لأن هذا التحول لا يمثل أي خرق لقانون ديني ولا قانون أخلاقي ولا قانون اجتماعي. أما تحول الإسلامي إلى علماني فهو تطاير وتصنُّع وتشبُّه وتطاول وليس فيه أي قدر من السمو ولا الرفعة بل فيه كميات وأطنان من الانحطاط والسفال وخفة الرأس وكذلك تحول المرأة من ربة منزل وعقيلة أسرة وربة صون وبيضة مكنونة إلى «دستورية» أو مغنية أو ممثلة أو ناشطة أو إلى جندر جديد على مقتضى شريعة سيداو والتي تدعو إلى إلغاء جميع أشكال التمييز ضد المرأة حتى التمييز الذي يحفظ الوظائف البيولوجية.. بل وتدعو جهاراً نهاراً إلى إلغاء وشطب آية من كتاب الله «وليس الذكر كالأنثى» وبمعنى أن سيداو تقول «إن الذكر كالأنثى» وهي بذلك تعطينا توضيحاً دقيقًا ومثالاً مطابقًا لمفهوم التطاير. وفي الإعلام تجد ظاهرة التطاير هي السمة الغالبة عند أهل الإعلام.. وأحذر أهل الإعلام من الوقوع في الخطأ الفاحش والخلط بين العموم والاستغراق فأنت مثلاً ترى برنامج معبود الأمريكان American Idol وكلمة Idol تعني «وثن أو صنم أو إله أو معبود» قد تحول إلى نجوم الغد في تقليد لا يدل إلا على التطاير والتفاهة والقحط الفكري والجدب الروحي وانعدام العبقرية.. والآن ظهر برنامج يبحث عن مواهب الشباب وأظنه بُني على منوال برنامج أمريكي اسمه «هل تعرف كيف ترقص» you think you can dance وسنرى منه الهوايل!! إن عباس بن فرناس كان أعقل وأضبط وأحكم من هؤلاء فقد صنع لنفسه جناحين ولكنه مع ذلك وقع لأن الطبع ليس كالتطبع وليس الطيران كالتطاير وليس الذكر كالأنثى ولا الإسلام كالعلمانية ولا فرسان في الميدان مثل American Idol إن أسوأ أنواع التسامي وهو من أسماء الأضداد ومعناه الانحطاط هو ما يحدث في دائرة التشريع إن الذين ينادون «بالديمقراطية» و«التعددية» «والمواطنة» وأصحاب مقولة الختان بجميع أنواعه و«متعهدي الكوندوم» هؤلاء جميعاً لو أنهم وُضعوا في كفة ووضع درهم من اليود في كفة لرجح بهم.. أو ثلاثة ظفر من النفتالين أو ذرة من النشادر ضعف الطالب والمطلوب. إن المجتمع اليوم في حالة من التطاير والتسامي وهي معنى مقلوب عندما يكون الحديث عن الإنسانيات والقيم ومقابلة التهاوي والتدهور والانحطاط.. وأعتقد أن السودان لم يشهد حاضنة لمثل هذا الخبل والجنون كما شهد في عهد الإنقاذ.. ربما قال البعض إنه الزمن وليس الإنقاذ.. والإنقاذ ابنة الوقت الذي جاءت فيه.. ربما.. ولكن هؤلاء الذين يتطايرون جلهم إنقاذيون بل ربما إسلاميون. ونختم بنوع طريف وظريف من التطاير والتسامي وهو ماركة إنقاذية مسجلة ومحمية. إذا كنت مطلوباً للعدالة وتريد أن تعود بطلاً ووالياً على النيل الأزرق.. فتمرد.. نعم تمرد أو بلغة مخففة تسامى وتطاير.. وإذا كنت شخصاً مغموراً وغير مؤهل لأي وظيفة كتابية وأردت أن تكون كبير مستشاري رئيس الجمهورية.. فتمرد وادخل الغابة وزُر فرنسا وأمريكا وطرابلس ومنها إلى القصر ربما مروراً بأبوجا.. أو غيرها. يا أهل الإنقاذ.. كفانا إنقاذاً.. إن السودان كله يتطاير الآن ويتسامى.. إلى أسفل وإلى القاع.. أعيدونا إلى سيرتنا الأولى.. إلى القوة والصلابة والثبات.. وقوة الرأس.