سوق الابيض يصدر اكثر من عشرين الف طنا من المحاصيل    الأكاديمية خطوة في الطريق الصحيح    شاهد بالصورة.. المذيعة السودانية الحسناء فاطمة كباشي تلفت أنظار المتابعين وتخطف الأضواء بإطلالة مثيرة ب"البنطلون" المحذق    شاهد بالصور.. الفنانة مروة الدولية تكتسح "الترند" بلقطات رومانسية مع زوجها الضابط الشاب وساخرون: (دي اسمها لمن القطر يفوتك وتشتري القطر بقروشك)    شاهد بالصورة.. زواج الفنانة الشهيرة مروة الدولية من ضابط شاب يقيم بالقاهرة يشعل مواقع التواصل السودانية    شاهد بالصورة.. زواج الفنانة الشهيرة مروة الدولية من ضابط شاب يقيم بالقاهرة يشعل مواقع التواصل السودانية    القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح: بدأت قواتكم المشتركة الباسلة لحركات الكفاح المسلح بجانب القوات المسلحة معركة حاسمة لتحرير مصفاة الجيلي    مصطفى بكري يكشف مفاجآت التعديل الوزاري الجديد 2024.. هؤلاء مرشحون للرحيل!    شاهد مجندات بالحركات المسلحة الداعمة للجيش في الخطوط الأمامية للدفاع عن مدينة الفاشر    إجتماع مهم للإتحاد السوداني مع الكاف بخصوص إيقاف الرخص الإفريقية للمدربين السودانيين    وزير الصحة: فرق التحصين استطاعت ايصال ادوية لدارفور تكفى لشهرين    وكيل الحكم الاتحادى يشيد بتجربةمحلية بحرى في خدمة المواطنين    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية        ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لاهوت الملحد النبيل (1)..قراءة في كتاب: نبوة محمد التاريخ والصناعة للدكتور محمد محمود..خالد موسى دفع الله
نشر في الانتباهة يوم 11 - 04 - 2013

بعدت الشقة بيني وبين الأرق الفكري أعوامًا سوالف، ولكن أعادني كتاب «نبوة محمد التاريخ والصناعة» والذي صدر حديثًا للدكتور محمد محمود أستاذ الأديان المقارنة بالجامعات البريطانية إلى حظيرة الرهق الثقافي مجددًا، وذلك لأنه اختط نهجًا صادمًا في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك بدعوى نزع القداسة عن الدين حتى يخضع لمناهج النظر العقلي والنقدي، ولكن ظل حراس العقيدة وممثلو النخب الإسلامية حسب زعم الكاتب يمانعون ويتصدَّون لمثل هذه الدعوات بالخنق والتكفير مما أدى إلى تعميق أزمة التخلف وتأخير شروط النهضة والإصلاح، وقد أسهم ذلك في تعويق جهود الحرية الفكرية والأكاديمية في العالم الإسلامي. وذلك بعكس التجربة الغربية حيث انفتح الكسب الديني فيها بفشو حركة الاستنارة والعقلانية إلى مباضع الفكر النقدي بعيدًا عن هالات القداسة وتمائم الحماية الإلهية. ويعتبر الدكتور محمد محمود أن كتابه هو امتداد لمشروع العقلانية التاريخي في العالم العربي والإسلامي، وأنه دون القبول بحرية الفكر النقدي للدين الإسلامي لا تستطيع هذه المجتمعات الخروج من وهدة التخلف والخمول والمساهمة في حركة الحضارة الإنسانية. اختط الكاتب نهجًا علميًا مرنًا حيث لم يشحذ مادة الكتاب بحذلقات ونظريات أكاديمية معقدة، بل اعتمد على مرويات التاريخ الإسلامي، من أمهات مصادرها، هذا إضافة إلى القرآن الكريم وكتاب صحيح البخاري، واعتمد على حشد مكثف من الاقتباسات القرآنية والأحاديث النبوية وكذلك أخبار ومرويات كتب السير والمغازي.
والكتاب من حيث موضوع دراسته وبحثه لا يعتبر جديدًا البتة، وهو أشبه ما يكون ببيع الخمر القديم في قنانٍ جديدة. إذ سلخ كثيرون جزءًا كبيرًا من أعمارهم يحاولون ترسيخ منهج نقد الأديان ونزع القداسة عن الدين من أجل الانتصار للمنهح العقلي ودراسات التاريخ الحديث ففشلوا، حيث قوبلت هذه الاتجاهات بمقاومة علمية قوية تصدى لها نخبة من العلماء بدعوى أن هذا النهج هو هدم صريح للإسلام، ونشط من هؤلاء محمود محمد شاكر والعقاد وغيرهما. ولعل كتاب «أصول الحكم» للشيخ علي عبدالرازق، وكتاب الدكتور طه حسين في «الشعر الجاهلي» من العلامات المبكرة في هذا المسار خاصة عندما أكد أن القرآن لا يُعتبر حجة في رواية الحوادث التاريخية إذا تعارضت مع مناهج النقد التاريخي الحديثة، مدللاًَ على ذلك بهجرة سيدنا إبراهيم وإسماعيل إلى مكة، واضطر بعد معركة صاخبة إلى الاعتذار وإعادة طباعة الكتاب تحت عنوان في «الأدب الجاهلي» بعد أن نسخ منه مواضع الجدل والخلاف. وترد في السياق ضمن منعطفات العصر الحديث مساهمات الدكتور محمد أركون، ود. القمني وفرج فودة والراحلان الدكتور جمال البنا والدكتور نصر حامد أبوزيد الذين نادوا بنزع القداسة عن الدين وإخضاعه لمناهج النظر العقلي. وتوسع د. أبوزيد الذي تم تكفيره والحكم بالتفريق بينه وبين زوجته عندما تقدم عام «1992» بطلب ترقية لدرجة الأستاذية بجامعة القاهرة مقدمًا إسهاماته الفكرية وهي كتابه «الإمام الشافعي وتأسيس الإيدلوجية الوسطية» و «نقد الخطاب الديني» وغيرهما، حيث زعم أن القرآن نص تاريخي، وهو في هذا المجال يؤكد أنه لا يمكن الفصل بين القرآن أو النصوص الدينية وبين محمولاتها العروبية في سياقها الاجتماعي والثقافي. وزعمت اللجنة العلمية برئاسة د. عبد الصبور شاهين أن أبوزيد دعا أولاً «إلى الثورة الفورية على القرآن والسنة، لأنها كما قال: نصوص دينية تكبل الإنسان وتلغي فعاليته وتهدد خبرته، ويدعو إلى التحرر من سلطة النصوص، بل من كل سلطة تعوق مسيرة التنمية في عالمنا. ثانياً: يقول على القرآن إنه منتج ثقافي تشكل على مدى 23 عاماً، وأنه ينتمي إلى ثقافة البشر، وأن القرآن هو الذي سمى نفسه، وهو بهذا ينتسب إلى الثقافة التي تشكل منها. ثالثاً: قرر أبوزيد بتفكيره الخاص أن الإسلام دين عربي، وأنه كدين ليس له مفهوم موضوعي محدد. رابعاً: هاجم في أبحاثه علم الغيب، فجعل العقل المؤمن بالغيب هو عقل غارق بالخرافة والأسطورة، مع أن الغيب أساس الإيمان».. وقد هاجم دعاة العلمانية هذا التقرير الذي وسموه بأنه تكريس لما اسموه مشنقة الفكر الحر في العالم العربي.
والسؤال الذي يثور في هذا الإستعراض: هل يعتبر كتاب «نبوة محمد التاريخ والصناعة»، امتدادًا لهذه المدرسة التي يرى البعض أنها إحياء لنهج بن رشد أو المعتزلة في التأويل العقلي للنص الديني ليتماشى مع روح العصر، وفي المقابل يراها البعض مروقًا صريحًا من الإسلام. والإجابة في ظني «لا» مع توكيد النفي القطعي، لأن هؤلاء حاولوا تأويل النص الديني من داخل سياقه العقدي والمعرفي، أما د. محمد محمود فإنه ينكر قطعًا لا ظنًا في كتابه المذكور النبوة، والدين والإله ويردها إلى أنها صناعة بشرية محضة. ولعل أهم اختلاف بين هذا الكتاب وإسهام المحدثين من الداعين الى التأويل العقلي هو أن د. محمد محمود لم يشتغل بالدراسات القرآنية بل جعل السيرة النبوية هي مادة دراسته متتبعًا مراحل النبوة منذ الإرهاصات الأولى إلى موته وانتقاله إلى الرفيق الأعلى صلى الله عليه وسلم.
وخطورة هذا الكتاب الذي نحن بصدده أنه يصدر من رؤية لا دينية إلحادية لا تؤمن بالنبوة أو الكتاب أو الله، وهو بذلك يتجاوز كل هذا التراث المنشور المنادي بنزع القداسة عن الدين وإخضاعه لشروط النظر العقلي المجرد وتعداه بالدعوة إلى نسف نظرية النبوة الدينية لأنها صنعت الإله في خيالها المحض واعتقلت العقل وصنعت واقعًا من التشوه والانقسام الأخلاقي، ويزعم أنه لا يمكن معالجة هذه التشوهات إلا بتحرير الناس من عبء هذه الصناعة وتشوهاتها. وهو بهذا الزعم ينتج لاهوتًا تحرريًا بديلاً لحمته وسداه العقل وليس الله أو النبي. والدكتور محمد محمود في كتابه هذا لا يدَّعي إيمانًا أو انتماءً دينيًا يقاضي ويحاسب عليه كما كان حال الدكتور الراحل نصر حامد أبوزيد حين صدر الأمر القضائي بردته، أي أن رؤيته لا تنطلق من داخل الفضاء الإسلامي كما فعل طه حسين من قبل، بل هو يصدر عن رؤية نقدية لا مكان للدين فيها ويسعى في فكره النظري لقتل النبوة في ذاكرة الناس وتراثهم حتى يتخلصوا من عبئها وتشوهاتها حسب زعمه.
ورغم جرأة الكاتب في ابتدار مثل هذه الدراسة للقارئ الإسلامي والعربي حسب زعمه لتحريره من خرافة النبوة، إلا أنه يفتقد المصداقية الفكرية حيث لا يرد جوهر أفكاره الأساسية في الكتاب الى مصادرها الأصلية. ويفتقد في اسهامه النظري الذي نحن بصدد مراجعته وتفنيده حس الأصالة الفكرية ORGINALITY ويفشل في رد بضاعته الي مصدرها الإستشراقي. وقد اعتمد الكاتب في ظني على تراث المستشرق البريطاني مونتقمري وات Montgomery Watt في كتابيه «محمد في مكة» Mohamed at Mecca الصادر عام 1957 وكتابه الثاني «محمد في المدينة» Mohamed at Medina الذي استكمل به مشروعه النظري في تحليل الوقائع التاريخية لحقبة الرسالة المحمدية واخضاعها لمناهج النقد التاريخي. وكتاب واط تم تأليفه للمؤرخين وقال إنه ألفه ليضع الأحداث الخاصة بالفترة النبوية وفق سياقها التاريخي. واستخدم واط مناهج النقد التاريخي في مقارنة الروايات، وكما قال الدكتور عماد الدين خليل أستاذ التاريخ الإسلامي المشهور أن مونتقمري واط والمستشرقين شككوا في كل شيء من أجل نزع الشرعية الدينية عن الإسلام، ولو وجدوا طريقة أخرى لشككوا في وجود محمد «ص» التاريخي ولقالوا اخترعه الخيال الشعبي. والكتاب يشير في بعض مواضعه الى عوالق الاتهامات الماضية والشبهات الصادرة عن المستشرقين التي رمت الرسول صلى الله عليه وسلم بكل منقصة لعامل الصدام التاريخي بين المسيحية والإسلام، وخير نموذج لهذه الاتهامات والتي استل الكاتب بعضها هي قول توماس كارليل Thomas Carlyle قبل مئات السنين في محاضرته المشهورة عن البطولة إن الرسول صلى الله عليه وسلم هو رجل محتال تمحل بالتعاليم الدينية التي يعلم كذبها من أجل تحقيق طموحاته الشخصية. وكما قال مونتقمري واط إن هذا الحكم للأسف صدقه وجرى على لسان العديد من دارسي التاريخ الإسلامي دون التحقق من صحته بأدلة ملموسة. الجدير بالذكر أن بعض السودانيين درس تحت اشراف مونتقمري واط بأدنبرة منهم البوفيسور عبد الرحيم علي الذي أعد رسالة الدكتوراه عن البنية الجمالية في الآية القرآنية ليؤكد أن بنية الآية القرآنية تتسق فيها البلاغة مع المعنى وليس مجرد حشو وسجع لفظي، وقد ترجم فصلاً من هذه الرسالة ونُشرت قبل سنوات خلون بالخرطوم.
ومن الشبهات والاتهامات التي أثارها هؤلاء وتجد لها أثرًا في الكتاب هي أن الرسول صلى الله عليه وسلم مخادع وحسي ويستدلون بحربه في الأشهر الحرم وزواجه من زينب بنت جحش. هذا رغم أن القرآن قد أنزل آيات في هذا الصدد أحلت له الزواج من زوجة أدعيائه بعد أن قضى منها زيدٌ وطرًا وطلقها. وقد كان مونتقمري واط أكثر إنصافًا من الدكتور محمد محمود عندما قال: كيف نحكم على فعل الرسول صلى الله عليه وسلم هل بمعايير العقلانية السائدة في الغرب الآن أم بمقاييس عصره آنذاك. وقال إن مقاييس عصره لم تجرمه أو تنتقده إلا في القليل الذي لا يذكر. وتجد أصداء ادعاءات د. محمد محمود في اتهامات المستشرقين التاريخية في أنه صلى الله عليه وسلم مال إلى العنف والقهر واستخدام السيف بعد الهجرة للمدينة.
ولعل الفكرة الجوهرية للكتاب كما سنوضح لاحقًا هي أن نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم ما هي إلا خيال إبداعي، وبما أن النبوة صناعة فإنها أحدثت أو صنعت الإله حسب زعم الكاتب. ويبلغ التمحل من الكاتب ذروته عندما لا يرد هذا الزعم إلى أساسه في الثيولوجيا المسيحية. وهو كما ذكرنا لا يقول بأن مؤلفات المستشرق مونتقمري واط هي مصدر فكرته الأساسية أخذها منه دون أن يشير إلى ذلك، كما استمد منه حتى منهجه في سوق الاتهامات وتطبيق مناهج النظر التاريخي. وللاستدلال على ذلك يقول واط:
Was Muhammad a prophet ? He was a man in whom creative imagination worked at deep levels and produced ideas relevant to the central questions of human existence
إن رد نبوة الرسول صلى عليه إلى الخيال الخلاق creative imagination وحده كما ذكر مونتقمري واط، وسايره في زعمه د. محمد محمود دون أن يشير إلى ذلك - مما يقدح في مصداقيته الفكرية والأكاديمية ، لا يقدم تفسيرًا متكاملاً لتعقيدات ظاهرة النبوة. وفي ذات السياق أخذ د. محمد محمود من كتاب Prophet Mohamed. A biography للكاتب الفرنسي برانبي روجرسون الذي ألف الكتاب بالفرنسية عام 1960 وتمت ترجمته للغة الإنجليزية عام «1971» ويعترف برانبي أنه اعتمد على كتابي واط عن محمد في مكة، ومحمد في المدينة. والتمس في مقدمة كتابه ألا يُُساء فهم مراده في هذه الدراسة التاريخية لأنها تحفل بنظرات وآراء نقدية متحفزة وغير سائدة في العالم الإسلامي. ويتفوق واط على محمد محمود وهو يحاول أن يبرز عظمة إنجاز النبوة المحمدية التي ردها لثلاثة عوامل وهي أولاً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كراءٍ استطاع أن ينظم إطارًا عامًا من المبادئ والأفكار عمل من خلالها لنزع عمليات التوتر الاجتماعية والصراعات القبلية التي كانت سائدة ونجح في خلق مجتمع متضامن ومستقر. ثانيًا: حكمته وقيادته كرجل دولة من الطراز الأول. ثالثًا: مهاراته الإدارية الخارقة، وقدرته صلى الله عليه وسلم في اختيار معاونيه من الصحابة وتقسيم المسؤوليات بينهم.
ونهج الكتاب وميسمه الفكري تتردد فيه أصداء من الماركسية التي ترى الدين ما هو إلا اختراع بشري انتجته طبقة الملاك والبرجوازيين لقهر العمال وطبقة البوليتاريا، وعليه فهي جزء من تفسير إيدلوجية الصراع الطبقي ولعل عبارة ماركس المشهورة تدلل على ذلك وفق هذا الاقتباس:
»Religious suffering is, at one and the same time, the expression of real suffering and a protest against real suffering. Religion is the sigh of the oppressed creature, the heart of a heartless world, and the soul of soulless conditions. It is the opium of the people. The abolition of religion as the illusory happiness of the people is the demand for their real happiness
اضافة الى الغلالة الماركسية، يكتسي الكتاب بتأثر فكري واضح لمنهج الأستاذ محمود محمد طه حيث يرد الكاتب أن سبب نجاح صناعة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم هو الانتقال من آيات الإسماح في مكة إلى آيات السيف بعد الهجرة إلى يثرب. مما أدى الى استخدام العنف وإراقة الدماء لقهر المخالفين وفرض الإسلام بالقوة. وهو لا يتبنى دعوة الأستاذ محمود بتثبيت آيات الأصول ونسخ آيات الفروع حتى يعود الإسلام متسامحًا ومتسقًا مع دعوى الإنسانية وحقوقها وذلك لأن د. محمد محمود لا يؤمن في نظرته الكونية بالدين والنبوة والخالق.
ينطلق الكتاب من فكرة مركزية مؤداها أن النبوة هي اختراع بشري وظاهرة إنسانية، وأن الله أو الإله لا يوجد البتة تعالى الله عما يصفون- إلا في خيال النبي الذي صنعه. ولكن الكتاب يقرر أن النبوة بوحي من خيالها المطلق وتفاعلها مع المجتمع هي التي تصنع الإله، ووفق هذا الافتراض فإن النبي «صلي الله عليه وسلم» ليس نبيًا أو مرسلاً من قبل الله، بل قام عليه السلام باخترع هذه الظاهرة وادعاء النبوة، وتقوم النبوة تلقائيًا بصنع إلهها واختراع فكرة الله، تعالى الله عما يصفون وبالتالي تنعدم عقيدة الاصطفاء السائدة في كل الأديان بما فيها الدين الإسلامي، إذ أن الله لا يصطفي الرسل من بين البشر. وكل ذلك وفق ما أسماه خيال النبوة. وحسب هذا الزعم الفاسد فإن النبوة ليست محض نشاط فردي فحسب بل تتضمن نشاطًا اجتماعيًا من قبل المؤمنين بالنبوة وبالتالي يتداخل نشاط الفرد الذي يدعي النبوة مع نشاط المجتمع الذي يحيط به. ويمتد خيال النبي فيصنع مجتمع المؤمنين، ويترتب على ذلك في أن يقوم خيال هذا المجتمع في علاقة تبادلية في تعزيز وتثبيت ونشر النبوة. ويزعم الكاتب أن نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم لم تكن مجرد خيال خلاق بل صنعت لنفسها مؤسسة ذات دور سياسي وإقتصادي وتشريعي. ويتوسل الكاتب لتبرير هذا الزعم الذي يجافي المنطق والعقل والحس السليم لتقسيم الكتاب إلى خمسة أبواب دراسية هي: البيئة والصعود، والمعارضة والرسالة والصناعة، وذلك عبر ثلاثة عشر فصلاً.
اعتمد الكاتب على في مجال السيرة على بن هشام، والواقدي وطبقات بن سعد. وفي التفسير اعتمد على الطبري والزمخشري والرازي، ولكن سرعان ما يكتشف القارئ المتفحص أن الكاتب ينتقي النصوص والاقتباسات من هذه المصادر ويعتمد كثيرًا على روايات الإخباريين ويميل الى مناطحة النصوص بعصها ببعض، وتوليد الجدل، مركزًا على المطاعن الواردة في هذه الروايات. إن الكتب التي اعتمد عليها الكاتب كما ذكر كثيرون كتب أقدمها بعد 150 عامًا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. وبالتالي فقد وقع الكاتب في خلط منهجي واضح لأنه يقيم وزنًا نوعيًا لروايات الإخباريين أكثر من آيات القرآن الكريم لأنها تخدم أغراض بحثه للتشكيك في مشروعية النبوة وتأكيد صناعتها البشرية.
ولعل أول ما يبدأ به الكاتب لتأكيد فرضيته الخاطئة وهو يتناول بالتحليل بيئة النبوة هي أن الرسول صلى الله عليه وسلم صنع نبوءته متأثرًا بالتراث الوثني في جزيرة العرب، وكذلك بالتراث اليهودي المسيحي وكذلك على الحنيفية التي كانت فاشية شيئًا ما هناك. وهو يقول إن الرسول صلى الله عليه وسلم نتاج شخصيتين وهي محمد صلى الله عليه وسلم التاريخي والآخر الذي أنتجته نظرية النبوة، ووفقًا لذلك يعتبر أن ما عزز من ذلك هو ما أسماه الخيال القرآني. وهو بالتالي يرى أن القرآن محض خيال تم استخدامه لصناعة النبوة وهو يعمل بالتكامل مع خيال النبوة. ولعل أفضل رد نقتبسه من ذات مدرسته التي تُعلي من شأن النظر العقلي أكثر من النص المقدس يقول حامد نصر أبوزيد بتعدد الثقافات العربية في جزيرة العرب قبل الإسلام، أي أنه لا توجد ثقافة عربية أو وثنية واحدة يمكن أن تؤثر على رسالة النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ثقافة ما قبل الإسلام لم تكن ثقافة واحدة، ولم تكن حياة العرب قبل الإسلام حياة واحدة. كانت هناك حياة مستقرة في المدن، كما كانت الزراعة في اليمن. أي كانت الحضارة موجودة في الجنوب، وفي مكة كان هناك مجتمع مستقر ومحمي لأنه كان يقع على طريق التجارة حيث ازدهرت رحلات الصيف والشتاء. باختصار كانوا مجتمع تجّار، وليس مجتمع بدو فقط. إذن، كانت هناك ثقافة البادية، وثقافة المجتمعات الزراعية والتجارية، وهذه الثقافات هي أعلى من الثقافة البدوية التي تعتبر ثقافة بدائية إلى حد ما. والقرآن ينتمي بطبيعة الحال إلى ثقافة المجتمع المديني».
وكثيرًا ما يسعى الكاتب الى استغلال اختلاف الروايات والتي تعكس ثراءً في المادة التاريخية واختلاف المدارس الإسلامية في التفسير والتأويل الى نسف مشروعيتها التاريخية، فمثلاً يزعم بأن اختلاف الروايات الخاصة بالإسراء والمعراج تعزى الى أن الخيال الإسلامي اختلق الإسراء كحدث منفصل عن المعراج. والمعراج حدث بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم لأن المسلمين أحسوا بضرورة رفد مادة اللحظة التأسيسة بلقاء يتجاوز الأفق الجبريلي. ويقول إن اللحظة التأسيسية للنبوة المحمدية هي لحظة ميلاد الإله الذي ينسجم مع نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ويصبح صوتها وصداها.
في تناوله لرسالة الرسول صلى الله عليه وسلم يقول مثلت القصة والأسطورة عنصرًا أساسيًا من رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم. وهو يردها الى عوالم الخيال المحض، ويمتد زعمه الفاسد ليقول إن القصص القرآنية مصدرها الأساسي هو التوراة من سفري التكوين والخروج، إضافة الى التراث اليهودي وتراث الشرق الأدنى. وبذات القدر أثبتت الدراسات الدينية المقارنة الحديثة عن اختلافات كبيرة بين الأسفار الخمسة وبين القرآن في نظام التشريع والعقوبات، وذلك مما يدحض نظرية الكاتب في أن الرسول صلى الله عليه وسلم صنع نبوءته من التراث الديني اليهودي دون تحوير يُذكر. الدكتور إبراهيم محمد زين في كتابه «فلسفة العقاب في القرآن» يشير إلى أنه رغم الارتباط الوثيق بين القرآن والأسفار الخمسة في موضوع التشريعات وفلسفة العقاب إلا أن القرآن يشير الى ثلاثة أنواع من العقاب وهي: التشريعي، والعقاب الإلهي الشامل وحالة عقابية مؤقتة مثل التيه. أما في الأسفار الخمسة فلا يوجد عقاب أخروي البتة وهذا ينسف نظرية أن اليهودية تدعى أن دار المعاد هي دار جزاء وثواب.
وحتى يطعن في شرعية الرسالة المحمدية فإنه يرد كل الأحكام والتشريعات والقصص في القرآن الى التراث اليهودي المسيحي، بيد أنه يزعم أن القرآن استخدم المادة التوراتية بما يحقق أغراضه ما عدا قصة سيدنا يوسف. وحول العالم غير المنظور أو عالم الغيب يدعي أن الرسول صلى الله عليه وسلم ورث المعتقدات الوثنية التي تؤمن بوجود عالم غير مرئي يضم الملائكة والشياطين وجعله جزءًا من البنية الاعتقادية للإسلام. ويتهم الكاتب الإسلام بأنه دين عنف وأن مفهوم الإله في القرآن قائم على صفة الانتقام - تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا-، ورغم تقريظ الكاتب للأستاذ الراحل محمود محمد طه إلا أنه يخالفه في أن عقاب النار سرمدي أبدي وليس لازمة مرحلية تصاحب النشأة القاصرة كما قال محمود في رسالته الثانية. وأشار الى أن محمود ألبس القرآن ما ليس فيه وهو رفض مبدأ الخلود في النار. وفي تناوله للنعيم والجنة يقول إن صور النعيم الحسية جاءت في القرآن لتناسب ثقافة الرسول صلى الله عليه وسلم السائدة، مشيرًا الى أن وصف الحور العين في القرآن «فجعلناهن أبكارا»، جاء أيضًا لأن الثقافة العربية تُعلي من شأن البكارة والعذرية. وهو يميل في هذه التفسيرات الى النزعة المادية الحسية.
ويصل الكاتب الى ذروة ادعاءاته عندما يقول إن الإسلام بشكله الراهن هو في واقع الأمر جسم لم يحقق تماسكه إلا في سياق عملية تدريجية استندت إلى اختيارات العلماء واتفاق أمزجتهم ومصالحهم. وهو في هذا الزعم ينكر منطوق القرآن الكريم الذي يؤكد للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين أن الإسلام قد اكتمل نزوله ورضيه الله دينًا للبشرية. يقول الله تعالى: «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا». وتطور أشكال التدين وكسب المسلمين من الدين اختلف باختلاف هذه الكسوب ودورات التاريخ المختلفة واقضيته المتباينة.. لذا لا يفرق الكاتب في هذا الصدد بين الإسلام كدين أو كسب التدين أو سلوك المسلمين ويجعل اللاحق حجة على السابق.
ويختم د. محمد محمود كتابه بفصل أسماه «صناعة محمد من البداية الى الكلمة». ويقول إن الإسلام تحول من دعوة سلمية الى إشهار السيف الذي اصبح عنصرًا أساسيًا لنشر الدعوة والبطش بالمعارضين. الكاتب بلا هدى أو كتاب منير في أن التوحيد أو الإله الواحد هو مركز الدين الإسلامي مثله مثل اليهودية والمسيحية إلا بمعناها الرمزي. ويرى أن الله ليس له صوت مستقل إلا عبر صوت النبي صلى الله عليه وسلم، وهو بالتالي يقرر أن المركز الفعلي للدين الإسلامي هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم وليس الله. وهو بهذا الزعم ينسف موضوع دراسته لأنه لا يوجد إسلام دون دعوة التوحيد، ولا توجد نبوة محمدية دون توحيد. وهو بهذا الحكم يضعف جهده النظري الذي بناه كله للتأكيد على تكامل ما أسماه الخيال النبوي والقرآني القائم على فكرة التوحيد. وقال إن العلماء ساهموا بفعالية في مشروع صناعة محمد صلى الله عليه وسلم بتمييزه عن باقي البشر ووضعه في مكانة خاصة. وينسى الكاتب أن الله هو من ميز الرسول صلى الله عليه وسلم وليس العلماء عندما وصفه القرآن «وإنك لعلى خلق عظيم». وقال الرسول صلى الله عليه وسلم عن نفسه «أدبني الله فأحسن تأديبي». ويقول إن العلماء اخترعوا علم النبوة وهي السير والشمائل والمناقب والمغازي الخاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم. وإنهم عمدوا إلى تطوير نظرية كاملة لصناعة محمد اعتمدت على عدة عناصر منها ما أسماه: البداية النبوية والجسد النبوي، وهنا المقصود وصفه الخلقي صلى الله عليه وسلم واللحظة والكلمة النبوية والفعل والمناقب ومن ثم الخصوصية النبوية. ويدعي الكاتب أن نظرية النبوة التي عمدت الى صناعة محمد قامت على التلفيق في مسعاها للتوفيق بين مناقبه ووصفه الخلقي المثالي وبين عوارض الطبيعة أو العيب الخلقي. ويضرب مثلاً بذلك فيما أسماه النتوء البازر بين كتفي النبي صلى الله عليه وسلم مشيرًا الى أن الحل الكبير وسط العلماء هو إيجاد فكرة خاتم النبوة.
ويسدر الكاتب في غيه النظري في خاتمة الكتاب حيث يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان محظوظًا إذ أجبرته الظروف ودفعته للهجرة الى يثرب فنجحت نبوءته ولكن إذا دفعته الظروف للبقاء بمكة فإن نبوءته كانت في الغالب ستموت بموته. وهو في هذا الصدد يتخلى عن مفهوم الخيال النبوي أو حتى التدبير الإلهي ويفسر الأمر بأنه محض تفاعل ظرفي بين الفرقاء. ويرى أن التحول الذي طرأ على الإسلام هو تحوله كما ذكر محمود محمد طه من قبل من دعوة الإسماح في مكة الى الدعوة العنيفة القائمة على السيف والقهر بعد الهجرة الى يثرب. قال الكاتب في هذا الصدد:
«كانت الهجرة هي اللحظة الحاسمة التي غيرت الإسلام من مشروع خلاصي روحي لمشروع التحم فيه الخلاص الروحي بقهر الدولة وعنفها لأن الإسلام أصبح أيضًا مشروعًا سياسيًا» ص 148 من الكتاب.
ويظن الكاتب في هذا الصدد أيضًا أن الرسول صلى الله عليه وسلم اختار النموذج الموسوي التوراتي القائم على التشريع والعقاب والدولة أكثر من النموذج العيسوي المسيحي القائم على البعد الخلاصي والأخلاقي. ويواصل ادعاءه أن النبي صلى الله عليه وسلم: بجمعه السلطتين الزمنية والروحية أصبح ملكًا مستدلاً بأن القرآن أوضح طرق مخاطبته وأرسي تقاليد مرعية لمحادثته مثل عدم رفع الأصوات.
ولعل أشد تلبيسات وتجنيات الكاتب المنهجية هي زعمه أن القرآن تراجع في الفترة المدنية وطغت مادة الحديث عليه لانشغال الرسول صلى الله عليه وسلم بترتيبات بناء الدولة، ولعل التفسير الذي قدمه لهذه الفرضية الخاطئة تؤكد مدى حالة التلبيس الفكري التي تساوره إذ يرى أن الطاقة الإبداعية للرسول صلى الله عليه وسلم وهي مصدر اختلاقه وصناعته للنبوة كانت أكثر نضجًا وتوهجًا في الفترة المكية نسبة لعامل العمر، إذ كان عمره صلى الله عليه وسلم ما بين الأربعين والخمسين، وسرعان ما انحسرت تلك الطاقة في فترة المدينة وعمره صلى الله عليه وسلم فوق الخمسين عامًا. ويرى الكاتب أن الرسول عبر عن نفسه من خلال الكلمة القرآنية في ذلك. ويبدي الكاتب دهشته بأن نبوة محمد أصبحت هي مركز التاريخ الإنساني منذ بدء البشرية الى منتهى العالم ويدعي أنها نبوة إقصائية لأنها أغلقت الباب على أي ادعاء لاحق وقال إن صناعة النبوة في الإسلام لم تختلف عن اليهودية والمسيحية إذ وضعت هذه الديانات أنبياءها في موضع القمة الروحية والأخلاقية للبشرية. وقال إن الدفاع عن النبوة يسلتزم الدفاع عن الإله الذي صنعته النبوة، وهو حسب زعمه إله الثنائية الأخلاقية التي شملت الإقصاء والتمييز والعنف، وكذلك الدفاع عن عنف الأنبياء الذين ارتكبوا أيضًا حسب وصفه أفعالاً غير أخلاقية.
يقدم الكاتب في الفقرة الأخيرة من كتابه زبدة اجتهاده النظري البائس كمن انتدب نفسه لمهمة نبيلة حيث يقدم رسالة خلاصية وهو أنه يريد أن يقتل النبوة في عقول الناس وذاكرتهم حتى يخلص البشرية من واقع الانقسام والتشوه الأخلاقي الذي صنعته النبوة حتى تتحرر عقول الناس وأفئدتهم من ذاكرتها وعبئها وميراثها. وهو بذلك يصنع بديلاً لاهوتيًا وخلاصيًا جديدًا، فهو يقتل النبوة نظريًا من جانب، ويحيي من الجانب الآخر فكرة الخلاص العقلي من هذه الخرافات التي أنتجها الخيال المبدع للنبوة. وهو بذلك يعيد فكرة كارليل في أن الرسول صلى الله عليه وسلم حسب زعمه طوع هذه الاحتيالات لتحقيق طموحات شخصية.
والكتاب الذي ينتهي بهذا الزعم المأخوذ من أدبيات المستشرقين والثيولوجيا الأرذوكسية المسيحية لا تترتب عليه فتنة مجلجلة أو شبهات مزلزلة، بل يعيد الثقة في نفوس المؤمنين والدارسين المقسطين في أن نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم لم تكن صناعة خيال مبدع بل هي نبوة حقة وأن الله الذي يتشكك في وجوده وينسب صناعته الى خيال النبوة أيضًا قد تعهد بحفظ القرآن من كل تحريف. ومع نشر مثل هذه الشبهات وصدور مثل هذه الدراسات والكتب فإن حب الرسول صل»ى الله عليه وسلم يجري في عروق المؤمنين مجرى الدم.
إن الكاتب كما ذكرنا في مقدمة هذا المقال أعاد إنتاج المادة الإستشراقية والشبهات القديمة حول النبوة المحمدية بعد أن أعاد ترتيب المادة التاريخية، وهو يسعى لبيع الخمر القديم في قنانٍ جديدة. وإذا كانت آراء المستشرقين وشبهاتهم القديمة قد أحدثت زلزلة في وقتها فإن نضوج مناهج البحث في مجال الدراسات الإسلامية وبروز نخبة مختصة في علم ومناهج المستشرقين والوقوف على آرائهم ونقدها قد حصن الأجيال الراهنة من أن تنطلي عليها مثل هذه التلبيسات والحيل والدراسات إلا من أجل ممارسة الجيمناستك العقلي. والكتاب كما ذكرنا من قبل فقد مصداقيته الفكرية والأكاديمية عندما سكت عن الإشارة الى مصدر الفرضية والأفكار الأساسية الواردة فيه خاصة مركزيته النظرية التي تزعم أن النبوة هي اختراع بشري صنعه الخيال الإبداعي الخلاق للنبي صلى الله عليه وسلم. وهي ذات الفكرة والزعم الذي ادعاه مونتقمري واط في كتابيه «محمد في مكة ومحمد في المدينة» اللذين اعتمد عليهما الكاتب تمامًا في تحرير سفره الراهن. وحتى مصطلح الرائي الذي وصف به النبي صلي الله عليه وسلم هو ترجمة لما أشار الى مونتقمري واط بأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو perfect seer حسب ظنه.
أعتقد أن الكتاب يمثل باكورة إنتاج النخبة اللادينية السودانية إذا وجدت وصح التعبير عنها، ورغم أنه غير موجه الى القارئ السوداني بل الى مهتمين في العالمين العربي والإسلامي إلا أن خصوصية انتماء الكاتب وعمله السابق في جامعة الخرطوم جعلتنا نُسقط هذه الخاصية على سفره الأكاديمي المذكور. وظني أن الكتاب موجه الى أقلية لا دينية معزولة، لا تسمح لها مواطن التدين القوي في السودان وفي العالم الإسلامي من أن تفصح عن وجودها وآرائها وأفكارها. ويشكل الكتاب تحديًا للنخبة العلمانية في السودان أكثر من النخبة الإسلامية والجمهرة الاجتماعية المتدينة التي ستنكر مضمونه ونهجه ومحتواه لأنه يمثل طعنًا مباشرًا في النبوة وهدمًا بينًا للدين الإسلامي. وأرجو أن يعرض الكتاب لبعض التمحيص والنقد الموضوعي من قبل المختصين والأكاديميين لأنه حافل بالنصوص والإحالات والتأويلات، ولعل التحدي الأساسي الذي سيواجه المختصين عند مراجعة هذا الكتاب هو كثافة الاستشهادات بالقرآن ومرويات السيرة والإخباريين مما يستدعي إعادة هذه النصوص الى سياقها الموضوعي والتاريخي، هذا فضلاً عن وضوح منهج الكاتب النقدي رغم التلبيس الاستشراقي الذي حاولنا تبيانه فيما سبق. والشكر الجزيل للدكتور حامد فضل الله سادن الثقافة العلمانية في برلين الذي أمدني بنسخة من هذا الكتاب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.