اطَّلعت على كتاب «طرائف المجالس السودانية» للبروفيسور عبد الرحمن محمد أحمد كدوك ورأيت إشراك القارئ في أجمل الطرائف التي حكاها ومنها قصة المرأة التي «ضربت البوري».. وكان من عادات النساء في السودان حين تعزِّي إحداهنَّ أخرى في وفاة قريب أن تضع كف يدها اليمنى على كتف الأخرى الأيسر ثم تصدر طنيناً خافتاً يشبه البكاء لثوانٍ معدودة.. وقد تنزل منها بعض الدموع الغزيرة «تجيبها من وين ما عارف» ثم تقول الأخرى استغفري.. يا بت أمي.. ثم تستغفر المعزية و«تتمخط» بصوت مسموع والبركة فيكم وعظم الله أجركم. وربنا يجبر كسرو وأنا والله كنت مسافرة.. وكنت عيانة.. و... و... وحاجة بتول تخلفت عن الذهاب للعزاء مع إحدى قريباتها لأكثر من أسبوع ولم تكن حريصة على الذهاب ولكن إلحاح بناتها على ضرورة ألاَّ تقطع البكاء جعلها تقرر الذهاب على مضض. ولأن حاجة بتول بلغت الستين من عمرها فقد اشتهر عنها النسيان وخلط الأمور مع بعضها والتقديم والتأخير في الكلام بصورة تُدخلها دائماً في الحرج. وفي يوم الذهاب إلى بيت العزاء أرسلت أحد أولاد بنتها ليحضر لها تاكسي.. وجاء التاكسي وخرجت حاجة بتول وجلست في المقعد الخلفي ووصفت للسائق مكان العزاء.. وفي الطريق أوصت السائق وصاية شديدة وكررت عليه القول ألا ينسى وصيتها وقالت له «أول ما أدخل على البيت.. بس أديني دقيقتين واللاّ دقيقة واحدة واضرب لي بوري.. أنا مستعجلة وعندي مية شغلة في البيت...» ووقف التاكسي أمام منزل العزاء ونزلت حاجة بتول ودفعت الباب ودخلت إلى الدار وظهرت المرأة المعنية صاحبة العزاء وتوجهت إليها حاجة بتول مظهرةً التأثر ووضعت كفها على كتف قريبتها.. وبدلاً من أن تبكي صارت تترنم قائلة «تيييت تييت مثل صوت البوري».. وذهلت صاحبة العزاء وانسحبت منها قائلة «ما تبكي معاي، ما تبكي معاي أمشي ألحقي عربيتك» ودارت بينهما مشاجرة حامية ولم تفلح حاجة بتول في إرضائها.. ولم تحل القضية ولم يتم التراضي بين الطرفين إلاّ بعد مدة طويلة جداً جداً. ويبدو أن المؤتمر الوطني «مثل حاجة بتول» لم يبلغ الستين بعد ولكنه «كابس» ربع القرن وربما أن هذا العمر الطويل أدخله في مشكلة «الكلام الكتير» والتقديم والتأخير وإدخال الموضوعات بعضها في بعض ودمج الأقوال في الأخرى والخلط والنسيان أو ربما تعمد الخلط والنسيان قصداً. والمؤتمر الوطني هذه الأيام ربما كان مهتماً جداً «بلم الشمل» و«عودة اللُّحمة» بضم اللام المشدَّدة حتى لا يفهمنها بعضهم بأننا نقصد «اللحم بتاع الجزارة».. والمؤتمر ربما كان مهتماً برتق الفتق وإرجاع الأمر إلى سيرته الأولى عندما كان على أيام «إذهب أنت إلى القصر وأذهب أنا إلى الحبس». ولهذا فربما بحثت الحكومة عن أهلها وذويها في كل مظانهم بالداخل والخارج.. وذهبت إلى بعضهم في بلاد تموت من البرد حيتانها.. وفي بلاد تنطق بلغة «الجرمانيين» ولغات الفرنجة.. والأمازيغ والطوارق و«نهي مهبتكي» وأطلقت دعوة إلى كل قدامى المحاربين من بينها وإخوانها من «ناس الحركة الإسلامية» لينضموا إلى «المسيرة القاصدة» على أن بعضاً من الجماعات المعروفة «بالشّبّة والشّلاقة» والمحسوبة على كتل اليسار عموماً والداعمة للتمرد وخلاياه النائمة أو قل اختصاراً المعارضات «الماوطنية» قد اعتقدت خطأ أن تلك الدعوة وذلك العزاء يخصها هي الأخرى مثلها مثل أهل الدار. ولم تلاحظ أن المؤتمر الوطني وحكومته مثل حاجة بتول ربما كانت مستعجلة جداً على الرغم من أنها وضعت كفها الأيمن على كتف «الحركات» الأيسر ولكنها نسيت أو تعمدت أن تنسى التعزية ونيست أو تعمدت أن تنسى أن تبكي وفي عجلتها تلك كانت تقول «تييت تييت تييت» وكان على القطاعات ذات الشلاقة أن ترفض هذا النوع من العزاء بدلاً من أن تطالب بتكوين حكومة انتقالية وتوسيع الحريات وتقديم ضمانات وتوسيع القاعدة «الواسعة أصلاً» ويدفع الحكومة نحو هذه العجلة ضرورة الإسراع في لم «فسيفساء» الحركة الإسلامية والقطاعات «الحردانة» والقطاعات التي تبحث عن «المدينة الفاضلة» والقطاعات «المجاهدة» و«المناصرة» والسائحون.. وهذه إذا ما تجمعت مرة أخرى فإنها بالطبع سوف تؤدي إلى زيادة العمر الافتراضي للمؤتمر وللحكومة ربما إلى ستين عاماً إضافية تماماً مثل عمر حاجة بتول. ولهذا نقول «للزملاء» في قطاع اليسار وقطاع الشمال ومن الذين تصوروا أن الحكومة «قاعدة تبكي معاهم» ألّا يذهبوا كثيراً في التهيؤات والخيال الجامح ونقول لهم إن الحكومة ربما في حقيقة الأمر قاعدة تعزي نفسها وتبكي مع إخواتها وليس لها مع «الماوطنيين» إلا أن تقول لهم تييت تييت تييت تييت.. وقديما قالت الفنانة «لو عايز تغيظهم تعال وأضرب البوري».. ولا ندري على وجه الدقة أن كان المؤتمر الوطني قد ضرب البوري أو أراد أن يغيظهم أو أنه قال تييت تييت تييت ساكت بس؟