أثارت العديد من الأقلام في الآونة الأخيرة جدلاً حول ما حققه المشروع الحضاري طيلة العقدين الماضيين، ومآلاته، والأسئلة متباينة ومتشابكة، والسؤال يظل مطروحاً أيضاً خارج أسوار الحركة الإسلامية. وتبدو دائماً قضية المثال والواقع الماثل هي الجدلية الأساسية للنقاش واختبار التجربة، فالشعارات بحرارتها ومثالية معانيها تخترق وجدان الجماهير وتستقر فيها دون عناء، ولكن عندما يزول فوران اللحظة وتتولد أصداء التجربة الظرفية يتدخل العقل لفض الاشتباك، ويبدو البحث جارياً بين المثال المسموع وبين التجربة الحاضرة. ولعل أبرز إشكالات الحركات الإسلامية السياسية هي اعتبار التنظيم ليس آلية لازمة للانتقال نحو تكوين بناء الدولة الإسلامية المثال، ولكن باعتباره الدولة نفسها، وبدلا من أن تكون الجماهير المسلمة هي الأمانة في ذمتها والهدف المعني، قد يعلو التنظيم بعصبيته وأسريته الموغلة متجاوزاً إياها، ثم يغدو وصياً على إرادتها في غياب المواعين الشورية الواسعة، وقد أفرز هذا الاحتفاء والقداسة التي تضفيها بعض التنظيمات الإسلامية على نفسها، أنها لم تعد تتقبل المساس بنقد تجربتها أو القبول بمحاسبة أعضائها، باعتبار أن ذلك قد يقدح في شفافية التنظيم ويعرقل مساره، وهو فقه استراح له العقل الجمعي داخل التنظيم وركن اليه، بل واطمأن إليه أيضاً الخطاؤون غير التوابين. وكلما ظهرت التحديات والعقبات بدا فقه الضرورة جاهزاً بمرونته الفضفاضة في إزاحتها وابتلاعها دون ثمة احترازات فقهية كافية، فكان السباق والانطلاق اللاهث الذي يحرق المراحل اللازمة للبناء الإسلامي، مما أحدث تبايناً بائناً بين الواقع والمثال المطروح، واتساع الفجوة بين القول والفعل، واتخاذ البرجماتية سلوكاً دائماً «لحلحلة» القضايا الطارئة، وبالتالي التوسع في التكتيكات المرحلية على حساب الثوابت الاستراتيجية والمبادئ القيمية. بينما بدت رسالتها الأساس أسيرة الملفات حتى غطاها الغبار ولفها النسيان إلا من بعض الهتافات العابرة وتأكيدات الانتماء والوفاء بالعهد المقطوع. وهكذا تجد دولة التنظيم بمرور الوقت، أنها بدأت تنقض غزلها عروة عروة دون أن تدري أو حتى تندم على ذلك، من هنا فإن تحسس المشروع الإسلامي داخل البنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية أمرٌ لا يحتاج إلى ثيرمومتر لقياسه، فالمشروع ليس حالة من الإسقاط المباشر للتعليمات والقرارات أو إضفاء شعارات محددة، إنما هو حالة من الاستبطان والاستلهام للمفاهيم القيمية الإسلامية يتنفس بها ويتحرك بهديها، فالمناهج التعليمية ليست حشواً لمفاهيم باردة يلقَّن بها التلاميذ، ولكن التفاعل التربوي لا ينفصل عن البنية المدرسية بمعلميها والمجتمع الخارجي والإعلام المحيط. وحركة الإصلاح الاجتماعي لا تبنى بالقوانين أو بحملات الضبط الأمني بكل آلياتها وأذرعها الطويلة، إنها جزء من منظومة الحراك الاجتماعي المتجذر في بحار الدين وشواطئه. إن حالة التمييز التنظيمي للأفراد داخل الحركات الإسلامية، قد تصبح آلية مغرية لاستقطاب العناصر الهشة والكسولة في غياب المفاهيم الرسالية وفقه العزائم والتجرد للعطاء. فصحيح أن الحركات الإسلامية بهذه الإغراءات ضخَّمت عضويتها واكتسحت الاتحادات الطلابية والشبابية والمهنية، وبات هناك التزام عضوي بمناهج العمل وآليته لا بمبادئه القيمية. لذا فإن هذه الكوادر عرضة للتساقط عند الابتلاءات الحقيقية والإغراءات، كما أن مردودها يظل دائماً محل جدل من منظور الشفافية والالتزام الحقيقي بالمضمون الرسالي. إن على الحركات الإسلامية أن تدرك أن الجامع الحقيقي هو آصرة العقيدة الصحيحة وفق الألوهية الواحدة التي يركن إليها المسلمون في ضعفهم وقوتهم، وإن التنظيم مجرد وسيلة لغاية سامية، ولهذا فإن الأهداف النبيلة لا تقبل إلا الوسائل النبيلة أيضاً. ولا شك أن التعقيدات السياسية وما فرضته من تكتيكات وتوازنات في الحكم بالإضافة إلى تمدد التدخلات الدولية وضغوطها، كانت لها إسقاطاتها السلبية في بسط المفاهيم الإسلامية واستلهامها، وإسقاطاتها على الواقع الحياتي والمؤسسي في الحكم، وصحيح أن الغرب والولايات المتحدة لن يقبلا أن ينفرد الشمال المسلم بتطبيق خياراته وثوابته العقدية والمفاهيمية دون مزاحمة، لكن عندما تنداح التقوى في القلوب وتبدو بوصلة للحراك السياسي والاجتماعي والاقتصادي، فإن السند الإلهي سيكون حاضراً لأن الله ينصر من ينصره. أخيراً هل تصحو الحركات الإسلامية من ثباتها في ظل المتغيرات والتحديدات العديدة التي تواجهها؟ نحسب أنه لا يمكن لأحد الإجابة على هذا السؤال على الأقل في المرحلة الحالية.