بالطبع لا ندري دوافع الحركة الأخيرة التي سميت «التخريبية» وما هي أهدافهم في حالة نجاح حركتهم؟ وهل هي محاولة لإصلاح الإنقاذ من ناحية مسارها الإسلامي، بحيث تكون أكثر تشدداً ورايدكالية في مواجهة الخصوم وفي حربها وسلمها، أم هي محاولة لعودة النبع الإسلامي الصافي الذي يجعل الدولة تسير بهدى الدين في حراكها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمني دون مغالاة أو تفريط أو تسويف؟ لكن رغم ذلك نرى أن ما حدث يمثل دروساً وعبراً للحكومة والحزب الحاكم، ولعل أولى هذه الدروس هي: 1 إن سياسة التمكين خاصة في العشر سنوات الأولى للإنقاذ، كرَّست السلطة لصفوة محددة يتداولونها فيما بينهم، ويتقلبون في الوظائف الدستورية أو التنفيذية والشعبية بما فيها النقابات المهنية والاتحادات الطلابية، بل حتى الرياضة لم تكن بعيدة عن الأيدي السلطوية، مما جعل طريق الإصلاح والمراجعة محدوداً وأسهم في عزل الجماهير عن النظام ومنعها من التفاعل الحقيقي معه، إذ بدا للكثيرين أنه يلبي تطلعات فئة محددة، وأنه بعيد عن أشواقهم ونبضهم الحقيقي، وحتى عندما حاولت السلطة فتح المشاركة السياسية للتيارات الأخرى جعلت له كوة صغيرة يلجون من خلالها بمقاس محدد وفق مواصفات محددة. 2- إن من الدروس المهمة أن إضعاف القوى السياسية واستقطاب رموزها وبعض كوادرها لا يمكن أن يشكل مصدر قوة إضافية وإن كثر عددها، لأنه استقطاب لم يرتكز في معظم الأحيان على القناعة الذاتية، فإما كان بسبب التضييق أو بفعل الإغراء والترغيب، لهذا فليس من الممكن أن يصمد أمام الابتلاءات والتحديات التي تواجه الوطن، بل الإغراءات التي تُسيل اللعاب أكثر من جهات أخرى ولو كانت خارجية. 3 عدم ممارسة النقد الذاتي للنظام ومحاولة إصباغ التجربة بما يشبه التنزيه للأفعال والرموز وإغلاق الطريق أمام الأصوات الناقدة بالتكتيكات المختلفة أو بالتجاهل بحجة وحدة الصف والانطلاق نحو الأهداف المنشودة، عمل على تكريس الأخطاء وتفريخ الفساد، فضلاً عن أنه ساهم في تقوقع الكوادر المخلصة بعيداً على رصيف الفرجة وإحلال العناصر الانتهازية وتفريخها، كما أن ذلك خلق مراكز للقوى لتحافظ على مواقعها وتحصن نفسها من رياح الناقدين، بافتعال الاتهامات والقتل المعنوي لكل من يشكل خطراً على مواقعها. 4 كذلك من الدروس المستفادة ضرورة التفريق بين الضرورات الفقهية المرتكزة على الثوابت والمرجعيات الدينية الحقيقية، والهوى.. ففي الفترة الماضية كلما ظهرت التحديات والعقبات بدا فقه الضرورة جاهزاً بمرونته الفضفاضة لإزاحتها وابتلاعها دون ثمة احترازات فقهية كافية، فكان السباق والانطلاق اللاهث الذي يحرق المراحل اللازمة للبناء الإسلامي مما أحدث تبايناً بائناً بين الواقع والمثال المطروح، واتساع الفجوة بين القول والفعل، واتخاذ البراجماتية سلوكاً دائماً «لحلحلة» القضايا الطارئة، وبالتالي التوسع في التكتيكات المرحلية على حساب الثوابت الاستراتيجية والمبادئ القيمية. بينما بدت الرسالة الأساس أسيرة الملفات حتى غطاها الغبار ولفها النسيان، إلا من بعض الهتافات العابرة وتأكيدات الانتماء والوفاء بالعهد المقطوع. وهكذا تجد دولة التنظيم بمرور الوقت أنها بدأت تنقض غزلها عروة عروة. 5 من الدروس أيضاً أن نجعل المفاهيم القيمية الإسلامية هي السائدة والحاكمة في كل مناحي الحياة استباطناً حقيقياً، ومن هنا فإن تحسس المشروع الإسلامي في الفترة الفائتة داخل البنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية أمرٌ لا يحتاج إلى ثيرمومتر لقياسه، فالمشروع الإسلامي ليس حالة من الإسقاط المباشر للتعليمات والقرارات أو إضفاء شعارات محددة، إنما هو حالة من الاستبطان والاستلهام للمفاهيم القيمية الإسلامية يتنفس بها ويتحرك بهديها فهل هذا تحقق؟ 6 ينبغي أن نعلم أن فتح النوافذ واندياح حرية التعبير والعمل السياسي ما لم يكن نقضاً لثوابت الدين ومرجعية الأمة، لا يمكن أن يكون خصماً للنظام أو مهدداً لأركانه، لكن الغبن المستبطن والقراءة الداخلية داخل العقلي الجمعي الصامت لدى الجماهير لا يمكن إلغاؤها أو تحديد مسارها بقرارات أو إجراءات احترازية واستثنائية، فهي ستظل تربة خصبة لأية فوضى محتملة أو تغيير سياسي وإن كان سالباً. 8 ينبغي أن تعلمنا التجربة والخلاف الحادث داخل التيار الإسلامي، أن الحكم هو وسيلة لا غاية لتحقيق المشروع الإسلامي وتحقيق الخلافة الحقيقة في الأرض، ليس بمعناها السياسي النمطي المتداول، لكن بشمولها المعرفي، وأن المحافظة عليها ينبغي ألا تحيد عن هدى الإسلام بوسائله لا بهدى هوى النفس وتكتيكات الشيطان، وأن الملك تماماً كالميلاد والموت يحدده الله ويمنحه في ساعة معينة وينزعه في ساعة محددة، وأن كل العالم بما أوتي من تكنولوجيا وأسباب قوة مادية وعسكرية لن يغير هذا المكنزيم الرباني إلى يوم الساعة.. فهل وعينا كل هذه الدروس وغيرها؟