·هل تمكَّن منك الإحساس – يوماً – بأن جسدك الفاني هذا ، يسكُنُهُ شخصان مختلفان جدَّاً ، أحَدُهما هُو الذي تُسَمِّيهِ (أنا) ، وهُو شخص عادي ، مُمِلٌّ ، مُداهِنٌ ومُجامِل ، كثير الأخطاء ، ومُكابِر لا يعترِف بنقائصه الكثيرة ، و «بتاع مظاهر» ، كسُولٌ ومُهمِل.. إلخ ، وأن الآخر الذي يسكُنُ جسدك شخصٌ مُحتَرَمٌ جِدَّاً ، صادق و «دوغري»، متواضع وصريحٌ ولا يُحسِن اللف والدوران ولا المجاملة .. وقلَّما تُشير إلى حضوره بلقب «أنا» إلا في لحظات نادرة ، تكُونُ فيها متصالحاً مع نفسك وراضياً عنها .. ·هل أزعجك الإحساس بوجود هذين الشخصين المتناقضين داخل إهابك ، وهل حاولت يوماً التفرُّغ لمراقبة ما ينشب بينهُما من «مشاكل» وما يتبادلانِهِ من شتائم وإهانات، وما يُسبِّبانِهِ لك – كثيراً – من إرباك لمشروعاتك وخُططك وقراراتِك ؟ وهل تساءلت يوماً ، بينك وبين نفسك ، : من هُو صاحب القرار .. (أنا»1») أم (أنا»2») الآخر؟؟.. بل هل حيَّرك السؤال : أيهُما «أنا» الحقيقي؟ ·جَلَستُ ذات صباح ، بمكتبي ، أُراقب «شكلة كاربة» بين هذين الشخصين ، وسبب المشاجرة كان هُو أن «أنا» غير المُحترم ، كان بصدد تلبية دعوة غداء من شخص فاحش الثراء ، سيِّء السيرة ، يجمعُ حولهُ بعض رموز المجتمع و يصطنع صداقتهُم من أجل المباهاة والدعاية الشخصية ، ولا يبخل بصداقته على الكُتَّاب من أمثالي ، ما دام يُرجى منهُم الإسهام في الدعاية والهتاف .. أقول: كان «أنا» غير المُحتَرم ، قد تقبل الدعوة بكثير من الإمتنان والسرور ، وكان مشغولاً حينها بالإعداد ل»سيناريو» الزيارة ، ماذا يلبس ؟ أي عطرٍ يضع ؟ على أية هيئة يبدو ؟ في أي وقت يذهب ؟ أين يجلس ؟ بجانب من من المدعوين الكبار يتخذ مجلسهُ ؟ ماذا يقول ؟ أيَّة نُكتة يحكي ؟ كيف يضحك ؟ إلخ .. حين فاجأهُ «أنا» المُحتَرَم ، دون أي تمهيد : - في ذمَّتَك انت هسَّع «بني آدم»؟ - كيف يعني ؟ وضح كلامك..!! - وعامل فيها ما فاهم كمان؟ يا أخي اختشي ، إحتَرم «شيبك» !! في آخر عمرك عايز تبقى لَيْ مجرد «طبَّال»؟ حِتَّة «كومبارس» لي زول خاوي ومُسطَّح ؟؟ - خاوي ومسطّح انت .. أسمع يا زول هووووي .. أنا لحد الآن بعاملك بأدب واحترام .. أرجوك راقب ألفاظك !! - وكمان عامل زعلان ؟ ما بتخجل من نفسك ؟ الكاتب الكبير فلان الفلاني ، يُلبِّي دعوة «الوجيه» نصف الأبله علان العلاّني ، بس عشان يلاقي هناك الوزير فلان والكبير علان ، ويتصوَّر معاهُم ، ويتسوَّل صداقتهم ؟! فضحتني الله يفضحك !! - فضيحة شنو يا أخي .. دي إسمها – يا متخلِّف – «علاقات عامَّة» .. إنت عايش في ياتو عصر يا أخي ، بعدين يا أخي ، لمصلحتك ، خلِّي «القندفة» والإنطوائية بتاعتك دي ، وعيش مع الناس .. رايك في الناس احتفظ بيهو لنفسك ، بس لازم تتعايش معاهُم ، ولازم تعرف كيف تستثمر علاقاتك بيهم .. وده شي مشروع لمعلوميتك ، لا بيخالف القانون ولا بيخالف الشريعة!! - وكمان جاهل؟ وما عارف إنو(الأخلاق) هي كُلَّ الشريعة وكُلَّ القانون؟؟ و أكيد ما بتكون عارف إنو البتسوِّي فيهو ده مناقض تماماً لمكارم الأخلاق .. ده إسمه «نفاق» و «مداهنة» .. ده سلوك انتهازي وجبان و ما ممكن يصدر عن إنسان بيحترم نفسه !! - يا خوي انت طلعت لي من وين ؟؟ شنو نازل فيني إساءات وإهانات من الصباح؟ وانت منو ذااااتك عشان تعمل لي تحقيق ومحاكمة ؟؟ - إنت عاااارف تمام أنا «منو».. وعارف كويِّس طلعت ليك من وين .. و اظنك كمان عارف إنو ، في النهاية ، كلمتي هي البتمشي ، وأنا بقول ليك من هسَّع ، والله العظيم المشوار التافه ده ما حتمشيهو إلا على جثَّتي !! - طيب أيه رايك .. أنا حأمشي ، وفعلاً حأمشي على جُثَّتك ، وعشان تكون عارف من هسع ، حأطلع من المكتب طوالي على مكان الدعوة ، وحأطلع الساعة تلاتة وخمسة دقايق ، وكان راجل تعال اقيف قدامي ، عشان أتخلّص منَّك وللأبد !! · لم يُعلِّق «أنا المُحترم» على هذا التحدِّي الأخير ، بل ضحك ضحكة ساخرة ، قائلاً :»نشوف»!! · أحس «أنا غير المحترم» بالإنسحاق ، فهو يعرف تماماً أنَّهُ أجبن من أن ينفذ تهديدهُ ، كما يعرف أيضاً أنّهُ لا يُمكن أن يتم أي مشروع أو ينفذ أي برنامج بدون موافقة – أو مخادعة – «أنا المحترم»، فجلس حائراً ، يُفكِّر في مخرج من هذه الورطة ، واضعاً ذقنهُ بين كفَّيه .. · في هذه اللحظة جاء داخلاً صديقي «جمال حسن سعيد» ، معلِّقاً على الجلسة «المُتَمَحِّنة» بضحكة وسؤال : - أوع يكون الجماعة متشاكلين!! · سألتُه مندهشاً : - ياتو جماعة؟؟ · ثم انتفختُ دهشةً حين علمتُ أن جمال يقصد الشخصين إياَّهُما ، أنا»1» و أنا»2» !! سألتُه وقد ألجمتني المفاجأة : - في ذِمَّتك عِرِفتَ كيف؟؟ - لأنه حاصلة لي نفس المشكلة .. تعرِف قبل ما أجي من البيت ، استغفلت ليك «جمال»المحترم لامن دخَّلتو في أوضة ،وقفلتها عليهو بالطبلة ، وخليتو يطنطن ويتوعَّد ، وجيت!!.. يا أخي ده والله لو تابعتو ما حآكُل عيش .. شابكني ليك ، أي حاجة : ده غلط .. وده ما أخلاقي .. وده نفاق .. ده عايزني أبوِّظ علاقاتي بالناس كلهم ..عندو راي في أي زول وأي حاجة .. بوليس أخلاق ، ما بيعرف هظار ولا مجاملة ولا أتيكيت !! ده إرهابي يا خي!! · كنتُ أظنُّ أن المشكلة تخُصُّني وحدي !! والآن يبدو لي أنك – أيضاً – تُعاني من ذلك «الإرهابي» المحترم ، الذي يُشاركُك جسدك ويتدخَّل في قراراتك !!! · أمَّا أكثر ما يُحيِّرُني ، فهو : مَنْ مِن هذين الشخصين هو الذي كتب هذا الكلام الذي تقرؤهُ الآن؟ هل هُو «أنا» الإنتهازي ، لينتهز بذلك إعجاب القراء بشجاعته وصراحته «رُوحه الرياضي»؟ أم هُو «أنا» المُحتَرم ، ليفضح خِفَّة و سطحيَّة خصمِه ؟؟!!