انتباه واهتمام الأغاريق أو اليونانيين بالسودان كان منذ زمن بعيد، فالمؤرخ اليوناني ديودوروس كتب أن السودانيين هم أول الخلق على وجه البسيطة، وهم من علَّم المصريين أساليب الكتابة، كما ذكروا أن العلاقة بين كوش وأثينا كانت وثيقة، هذه الحقائق للأسف أهملها الكثير من المؤرخين عند بحثهم في صلة اليونان بالسودان، فمعظم الإشارات التي وردت إلينا اكتفت بالنظر إلى التاريخ القريب وهو القرن التاسع عشر، وذلك لعدم وجود وثائق مكتوبة عن هذه العلاقة بسبب الحروب أحيانًا وكذلك لعدم اهتمام الطرفين بالتوثيق، لكن الشيء الذي يجب ألا نغفل عنه أن الأغاريق شركاء في التاريخ السوداني، فقد ارتبطت حياة السودانيين ببعض الأسماء والشخصيات الإغريقيَّة التي كان لها أثر على المستويين الاقتصادي والاجتماعي بالسودان.. فكانت جولتنا هذه للتعرف على تاريخ الأغاريق والمجالات التي عملوا بها وبعض مشاهيرهم ووضعهم الراهن بالسودان. أول مؤسِّس ورئيس للجالية اليونانيَّة بالسودان: (كاباتو) جاء إلى السودان في العام (1883) وعمل في مدينة سواكن في شركة جون روس، ويقال إنه شغل وظائف عديدة فقد عمل بحَّارًا وتاجرًا ومستثمرًا ومزارعًا، ويحفظ له التاريخ أنه مؤسس الجالية اليونانية في السودان، و(كاباتو) كغيره من اليونانيين لم يكن ميالاً للسياسة لكن طبيعة عمله جعلته يتعرف على ضباط إنجليز أيام الحكم الباريطني فسهَّلوا له من مهامه التجاريَّة فنمت تجارتُه وازدهرت، وقيل بأنه كان مغامرًا وغير هيَّاب لذا ترواحت حياته بين الفقر والغنى، فقد غرقت له مراكب تجاريَّة كما احترقت مخازنُه وتعرَّض أيضًا لعمليَّة نهب جعلته مُطارَدًا من بعض الدائنين، أمَّا أول رئيس للجالية اليونايَّة عام (1902) فهو (كونتستاندينوس غريفاس)، والجدير بالذكر أن الجالية اليونانية كانت من أكبر الجاليات الأجنبيَّة بالسودان والخرطوم آنذاك. تاريخ الجالية اليونانية بالسودان: أوضح رئيس الجالية اليونانية بالخرطوم إيمانويل بابابانويوتس من مواليد ولاية الجزيرة أنَّ بداية دخول اليونانيين للسودان كانت منذ عام (1858) لافتًا إلى أنهم سكنوا في مختلف ولايات السودان وكوَّنوا جاليات في مختلف مناطق وجودهم، وقال: في عام (1902) أُنشئت الجالية اليونانيَّة بالخرطوم وكان رئيسها آنذاك (كونتستاندينوس غريفاس)، وفي (1903) أُنشئت الكنيسة الأرثوذكية لأبناء الجالية بالخرطوم، وفي (1904) أُسس النادي اليوناني وكان موقعه بالخرطوم ثم تحوَّل إلى منطقة الامتداد جنوبالخرطوم وسُمِّي (أبولو)، لافتًا إلى أنه الآن غير موجود، وفي عام (1907) أُسس النادي الرياضي اليوناني وكان موقعه القديم في شارع الجمهوريَّة مقابل عمارة بابا كوستا ثم انتقل إلى وسط الخرطوم بالقرب من المك نمر وتحت كبري المسلميَّة، وهو موجود حتى الآن، وأضاف أنه في عام (1933 1934) أسس جيراسيموس كوندو ميخالوس المدرسة العامة والعالية، كما أسَّس ينيوتس ترامباس المدرسة الابتداية، مشيرًا إلى أن المدارس الآن توجد داخل مبنى السفارة، وفي ذلك الوقت كانت الصحافة في يد اليونانيين، ففي (1911) صدرت أول جريدة باللغتين اليونانية والإنجليزية، وكانت تحمل اسم (sudan News)، وفي ذات السياق أضاف إيمانويل بابابانويوتس أنه في عام (1909) أُنشئت الجالية اليونانية بودمدني، وبجانب الجالية أُنشئت كنيسة ومدرسة ابتدائية ونادٍ للجالية، أمَّا في عطبرة فأنشئت الجالية في عام (1910) بجانبها كنيسة ومدرسة ابتدائيَّة، أما في القضارف فأنشئت الجالية في عام (1910) وبجانبها كنيسة ومدرسة ونادٍ، أما في بورتسودان فأُنشئت الجالية اليونانيَّة في عام (1906) وكانت من أعرق الجاليات اليونانية ونشأت بسواكن نسبةً لوجود الميناء بها ثم انتقلت إلى بورتسودان، وفي (1924) أسسوا مدرسة ابتدائية ببورتسودان، وأشار إلى أنه الآن لا توجد جالية لليونانيين إلا في الخرطوم... والجالية تمتلك مدارس وكنيسة مطرانية، وأن فترة الرئيس نميري هي من أكثر الفترات التي شهدت هجرة عكسية لليونانيين من السودان إلى اليونان مما أدى إلى تقلُّص عدد أفراد الجالية. أشياء اشتُهر بها الأغاريق بالسودان: في العام (1911) أصدروا صحيفة سودان هيرالد وهي الصحيفة ذاتها التي صدرت عنها صحيفة رائد السودان كأول صحيفة غير حكومية عام (1913م)، كما أنهم أول من عرَّف السودانيين ما يسمى بالديسكو وذلك عن طريق فاسيلي ديسكو فاسيلي الشهير الذي عرف مهارات الراقصين السودانيين، وفيه كانت تنظم المسابقات، كما اشتهروا بالمطاعم ذات الطابع اليوناني والفنادق، والتجارة والصناعة والتصدير والاستيراد والزراعة. المطاعم والفنادق الإغريقيَّة بالسودان: وأضاف مدير الجالية اليونانية بالخرطوم روبرت جورج نجيب أن الجالية اليونانيَّة هي أكثر الجاليات التي برعت في إدارة وفتح المطاعم فظل اتينيه (بيت الضيافة) محتفظًا بنكهته وطابعه مثلما افتتحه جورج فالفس، وأشار إلى أن صاحب سلسلة مطاعم بابا كوستا ليس يونانيًا بل سوداني سمَّى المطاعم بذلك الاسم نسبةً لشهرة بابا كوستا، كما أشار إلى أن كوستي كان يملك فرنًا وليس مطعمًا في عمارته الحاليَّة وسط السوق العربي، وهنالك أيضًا مطعم (سوفلاكي)، ومعنى اسمه فطائر باليونانية، ويُقدِّم الفطائر اليونانيَّة، وكان مقره السابق بالقرب من السفارة المصرية وحاليًا في عمارة الجالية اليونانيَّة بشارع البرلمان مع تقاطع شارع كونت ميخالوس، أمَّا من أشهر الفنادق اليونانية فهي فندق (الأكرابول)، وفندق (دولي هوتيل) في الخرطوم (2)، وفندق (كناري هوتيل) في العمارات شارع (45). شخصيَّات تاريخيَّة إغريقيَّة بالسودان: وعن التعريف بالشخصيات اليونانيَّة التي اشتُهرت بالسودان أفادني روبرت جورج وإيمانويل بابابانويوتس أن كاباتوس كان من مشاهير اليونانيين بسواكن، أما جيراسيموس كوندو ميخالوس فقد عُيِّن في عام (1934م) رئيسًا للجالية اليونانيَّة بالخرطوم كما كانت له إسهامات كبيرة لأبناء الجالية والسودانيين، وتكريمًا له سمَّت حكومة السودان شارعًا باسمه كما امتلك العديد من المباني وسط الخرطوم وأسس العديد من الدُّور الثقافية اليونانيَّة كما شيد كنيسة ومدارس وأندية، (جورج فالفس) هذا الرجل الذي أنشأ مطعمًا على طراز يوناني لكن بطعم وطابع سوداني وجاء ذلك بعد أن زار عددًا من الدول عربية وإفريقية وطاب له المقام في السودان وبعد أشهر قليلة أصبح مطعم (اتينيه) مكانًا يلتقي فيه الوزارء والسفراء والعاملون في السلك الدبلوماسي، وبعد أن ازدهر المطعم قرَّر جورج الاستقرار مع أسرته في السودان لكن بعد فترة توفي جورج فقرَّر (كوستا) ابنه إدارة المطعم... وكوستا درس في الخرطوم وصادق السودانيين وألِف الحياة الاجتماعيَّة السودانيَّة وفضَّل أن يحمل الجنسيَّة السودانيَّة، وبالرغم من انتقال كوستا من العمل في المطاعم إلى أن فتح مصنعًا لأحجار الطواحين لكن ظلت المطاعم التاريخيَّة بنفس أسمائها، بانيوتي بفولاتوس صاحب فندق الأكرابول الذي أسَّسه في عام (1956م)، أمَّا في مجال الصيدلة فاشتُهر (ربوبلوس، كتراس صاحب صيدلية لويوس في وقته، فاسيلي خرستوقورو صاحب مصنع كولدير للثلاجات لكن الآن تمَّت تصفيته، لويزو صاحب مشروب لويزو وله العديد من المشروبات الغازية، (جورج بزيانوس) صاحب مصانع مشروبات غازية أشهرها بزيانوس وبيبسي كولا، أمَّا في مجال صناعة الزيوت فهناك مصانع سودان أويل ميلس وكانت أول مصنع لزيوت الطعام بالسودان لصاحبيه (بيرديكيس وكارابانايوتس) وصاحب مصنع النيل للبوهيات، وأضاف أيضًا أن اليونانيين هم أول من صنعوا الجبنة البيضاء (فيته اليونانية) والرومية، مشيرًا إلى أن (بنيوتي) بمنطقة الدويم هو أول من بدأ بصناعتها، أما في القضارف فقد اشتُهرت بها عائلة تيروبو ليس، وفي الدويم عائلة مايسترو، أما كوستا الذي سُمِّيت عليه منطقة كوستي الحالية فعُرف بأنه انتقل إلى تلك المنطقة وتجمَّع أهلُها حوله، ونسبة لتعلُّقهم به حملت المنطقة اسمه، ومن المباني التي كان يمتلكها اليونانيون منها المقر الحالي لاتحاد نقابات عمال السودان وهو عبارة عن منزل وشركات رجل الأعمال اليوناني السوداني كونت ميخالوس، ومبنى الجالية اليونانية بتقاطع شارع كونت مخالوس مع شارع البرلمان، وعمارة بابا كوستا شارع الجمهوريَّة، أما من رجال المال والأعمال الذين عملوا في التجارة وصادرهم الرئيس جعفر نميري ميتشل كوتش، وأعمال كونت ميخالوس الذي توفي في أبريل (1956م) وغيرهم... الوضع الراهن لليونانيين: وأشار رئيس الجالية اليونانية بالخرطوم إيمانويل بابابانويوتس أنه في الوقت الحالي تقلَّصت أعداد الجالية من آلاف إلى حوالى (300) فرد يمتلك بعضٌ منهم دكاكين وسط الخرطوم ومصانع للبوهيات والمبيدات والمسامير وتصدير (الكربون، والسمسم وغيرها...) بجانب استيراد متطلبات السوق. السودانيون تربطهم بالجالية اليونانيَّة صلات اجتماعيَّة واقتصاديَّة بالرغم من ذهاب بعضهم إلى اليونان إثر قرار التأميم والمصادرة الذي أصدره جعفر نميري، فمثل هذه الجالية التي أحدثت تأثيرًا كبيرًا لا يمكن أن ينساها المجتمع السوداني فهي الجالية الوحيدة التي أصدرت صحيفة.