«من نذر نفسه ليعيش لدينه فسيعيش متعباً».. ولكنه «سيحيا عظيماً ويموت عظيماً» يكاد يكتمل الشهر وصورة الشهيد خالد أبو سن، تأبي أن تبارح مخيلتي، بل ملامحها الوضيئة وابتسامتها وإيماءاتها البريئة والعفوية تخيم على مشاش الذاكرة.. كان الشهيد أكثر من أخ عزيز يحنو علينا في زمان عز فيه الإخاء في «الله».. قاومت أحاسيس ومشاعر حمى الكتابة ولكن مقاومتي لم تصمد أمام رغبات إخوه أعزاء ألحوا علي بالكتابة.. آخر ما خطه يراعي في سير الشهداء ومناقب النور، كان ذلك في وداع الشهيد علاء الدين زايد أو «فاولينو» كما تحلو تسميته عند المجاهدين.. الكتابة عن صفوة الإخاء، وعرة وشاقة وطعمها أمر من الحنظل.. ما بين الشهيدين «فاولينو» الذي لبى نداء ربه مع زمره الأخيار في هجليج، وأبو سن شهيد القضية والواجب في طريق «التحدي» ثمة تأملات تستحق التدبر، حزننا الخاص والاستثنائي على الرحيل خلسة تضاعف ومزق نياط القلب، وكلمات العم «عبد الله أبو سن» وإخوة آخرون أعزاء ترن في أذني «أنت أحزن من يكتب عن الشهيد».. وما كان لي أن أرمي هذه العبارة بكل ما جلبته عليه من دموع وأحزان وراء ظهري!! خالد أبو سن، شاب في الخامس والعشرين من عمره، في وقار وحكمة الشيوخ.. ولأنه من بيت عز وحكمة حفيد «محمد أحمد أبو سن»، المحاضر بجامعة درم البريطانية وأول وزير في الحكومة الوطنية، وأيضاً «حفيد أحمد بك أبو سن أول سوداني يحكم مديريتي سنار والخرطوم.. الحكيم والعادل ومقيل الضعفاء والمساكين، ووالده اللواء مظلي عبد الله محمد عبد الله أبو سن بن «ناظر الخط».. سليل المكارم كان ناشطاً «منذ نعومة أظافره في العمل الدعوي والثقافي بالمدارس، انتخب رئيساً» لاتحاد طلاب جامعه الخرطوم «2009 - 2010» في تجربة غالية يحن إليها الإسلاميون بشيء من الأمل والطموح كلما أعدوا للنزال، وفرت التنظيمات إلى سياسة النعامة بمقاطعة العملية الانتخابية، ثم انتخب رئيساً» لاتحاد طلاب ولاية الخرطوم،أشفق الكثيرون عليه وهو في ريق الصبا حينها إلا أن طريقته في إدارة العمل بعد ذلك أوضحت وأقنعت الجميع أنه يسلك منهجاً جماعياً وتشاركياً ولا ينزع للفردية، مواقف الاتحاد كانت لصالح القاعدة الطلابية، حين هبَّ المكتب التنفيذي مندداً» بدخول الشرطة الحرم الجامعي في أحداث شغب جامعة الخرطوم.. الإفطارات الرمضانية في الداخليات شهدت ميلاد رئيس اتحاد، لا تنتفخ أوداجه إذ داهمه إخوانه بالأسئلة الحارقة حول الرسوم والكفالة وتشغيل الطلاب، كان الشهيد كثيرا ما يردد «إن انتخابنا من الطلاب مسؤولية، فلنتق الله فيهم»!! عندما ذهبنا سوياً الى مناطق العمليات العام الماضي في متحرك الشهيد «فاولينو» لتحرير تلودي.. كان شغوفاً بلقاء الأعداء دائم الحديث عن معاناة أهلنا في جبال النوبة مع الحرب وانتشار التبشير المسيحي، كان الشهيد ملاذاً لإخوانه المجاهدين يهجعون إليه في خيمته المنصوبة عند مدخل المعسكر على صفح «جبل النار» يصلي وينشد ويبتسم، ولا يبالي بما كان يجري في الخرطوم وقتها، لم تكن الدنيا بزخرفها تخلب لبه ولا تساوي عنده جناح بعوضة.. كان يقول لي بأدبه الرفيع لا بد أن نصحح المفاهيم الخاطئة ونخلص العمل لقواعدنا.. وأما أكثر أحاسيسه الصادقة ومبادراته العملية تجاه شريحة الطالبات.. فقد كان يدمع ملء عيونه عندما يشاهد معاناتهن في المواصلات ومشروع الترحيل خير شاهد على صدق فعله!! الشهيد في جوانبه الإنسانية، وكل حياته سفر إنساني وإخاء وبشاشة وقيم، كان حسن الظن بالآخرين لا يستعجل السيئة أبداًَ، أشهد بأنه يمتلك قدرة هائلة في التفكير والتخطيط والتنسيق وإدارة المواقف، أحب الجميع وأحبوه وشهدوا له بالخير وتنادوا إلى تشييعه بعشرات الآلاف في مقابر الصحافة، وهم موقون أنه سيبقى مشروعاً إنسانياً «ووجدانياً» يلهم الأجيال، فقد نعته الدولة وخف الى عزائه بمنزل الأسرة بجبرة رئيس الجمهورية ونائباه ومساعدوه ووزراؤه وولاته، ولم يغب أحد!! حدثني شقيقه الوحيد المكلوم والصابر «محمد» أن ليلة الحادث انتابته مشاعر مختلفة حينما لم يرتح لسفره، وحاولا سويا في المساء تدوين الخواطر والأفكار لمشروع الزواج الذي كان مقرراً في «يونيو» والأمل أن ينفذا تلك الأفكار بعد العودة، فكان الحادث المشؤوم صباح 8/4/2013 ليسلم روحه بعد أربعه أيام إلى بارئها في الأردن!! أفرغنا دمعنا السخين ولم يزل الحزن مقيماً.. طيفه ما يزال وابتساماته وأحرفه التي كان يخطها على الورق الملون بعض من ذكريات ورسائل خاصة بيننا. وأمسياتنا في «عثمان كابتشينو» صلواتنا في مسجدي «الجامعة» الشهيد .. والإفطارات الرمضانية التي تعدها الوالدة «إبتسام» تلك الصابرة في شموخ، مداعباته وتعليقاته وضحكاته... أحلامه ببناء عش الزوجية، والسؤال الذي لا يزال يرن صداه في أذني «الخبر شنو.. طمنا عليك».. فمن لهذا الدفق الإنساني بعدك، من لتوائم روحك «محمد خليل _ كامل مصطفي»؟! من لرفقائك في الرحلة «محمد عبد الله _ مجاهد»، من لمصطفى عثمان الذي نعاك بقصيدة باكية من «هونغ كونغ» ليست أقل قامة من بكائية الوزير الأديب أمين حسن عمر، يا أخي وصديقي خالد عبد الله محمد عبد الله أبو سن، دعني أناديك هكذا، فقد كنت تناديني باسمي رباعياً دائماً «محمد إدريس عمر محمود» فكنت أستغرب.. والآن فهمت! اللهم تقبله شهيداً