آخر أنباء الاعتداء على المال العام تفيد بوجود «32» دعوى قيد النظر أمام محكمة اختلاسات المال العام بالخرطوم، فضلاً عن وجود «39» دعوى تنفيذ أمام المحكمة في قضايا صدرت فيها احكام، وجارٍ استرداد الاموال المعتدى عليها وفقاً لرئيس نيابة المال العام مولانا هشام عثمان في تصريحات للزميلة «السوداني» أمس، وتبقى قضايا الفساد والاعتداء على المال العام من أبرز القضايا التي شغلت الرأي العام وتبعاً لذلك الحكومة فترة طويلة، ولكن هل قضايا الاختلاسات التي يجري إلاعلان عنها من حين إلى آخر هي الإشكال الأساس في قضية استباحة المال العام؟ للاعتداء على المال العام اوجه أخرى متمثلة في استغلال النفوذ، على كل المستويات التنفيذية والسياسية، وقد سبق لتقرير المراجع العام في نهاية العام الفائت أن كشف عن ضبط «40» حالة استغلال نفوذ في معاملات مالية، بلغت جملتها «17.1» مليون يورو و «1.2» مليار جنيه في معاملات بنوك ووزارات وهيئات حكومية وأفراد وشركات خاصة تتبع لها، وأشار التقرير الذي نشر جانب منه بالصحف لعمل الأطراف المعنية على تغليب مصلحتهم على المصلحة العامة، وانتقد المراجع تلك المعاملات واصفاً إياها بالمنحرفة، والمتابع لتقارير المراجع العام السنوية يجد أنها المرة الأولى التي يتعرض فيها لاستغلال النفوذ، فإذا كانت تلك هي اتهامات الاستغلال لعام 2012م فماذا عن الأعوام الأخرى؟ ألم تتوفر فيها قضايا الاستغلال، أم أنها كانت طي النسيان المتعمد، وأن المسؤولين اضطروا للكشف عنها جراء الطرق الصحفي المتواصل حول الفساد، خاصة بعد موت مفوضية مكافحة الفساد التي أعلنها رئيس الجمهورية عمر البشير في أكتوبر 2011م ولم يسمع لها صوت، إلى أن عاد الرئيس ليسمي جسماً جديداً لمكافحة الفساد باسم آلية مكافحة الفساد في مطلع يناير من العام الماضي، يتبع مباشرة لسيادته، وذلك لمكافحة الفساد في أجهزة الدولة، ومتابعة ما ينشر عنه في وسائل الإعلام المختلفة، وقد أُسندت مسؤولية الآلية للدكتور الطيب أبو قناية، ومنذ أن تقلد أبو قناية منصبه لم يجر الإعلان عن أية قضايا فساد أو إحالة للجهات النيابية والقضائية المختصة، وكان صمته محيراً، واستمر الحال على ما هو عليه الى أن تم إعفاؤه في فبراير الماضي دون أية مسببات معلنة، مما أثار العديد من الاستفاهمات آنذاك، وتبدو قضية الفساد والاعتداء على المال العام أكبر من كونها مجرد قضايا تتابعها الجهات المسؤولة ومن ثم تقدم للجهات العدلية المعنية، لتبدو كأنها مشكلة تتعلق بنظام الحكم نفسه، وفي هذا السياق يقول وزير الأمن الاسبق عبد الرحمن فرح في تصريح سابق للصحيفة إن الفساد جزء من حماية النظام نفسه. ولما كان البرلمان بوصفه الجهة الرقابية الأولى في البلاد على الجهاز التنفيذي وتتوقع منه أدوار أكبر في هذا الجانب، وبالرغم من الجهد الذي تبذله لجنة الحسبة والعمل والإدارة والمظالم العامة برئاسة الفاتح عز الدين وتخبر عنه وسائل الإعلام من حين لآخر، لا تبدو أعمال البرلمان على قدر مسؤولياته التي ينبغي القيام بها، وقد سبق لرئيس كتلة المؤتمر الوطني المقال غازي صلاح الدين أن قال في حوار للزميلة «الصحافة» في رمضان الماضي، إن البرلمان يتحرك في الحدود المسموح له بأن يتحرك فيها، مما يدل بوضوح أن للبرلمان قيوداً لا يستطيع ان يتجاوزها، ولاحقاً قال في تصريحات بالبرلمان إن مكافحة الفساد لا تحتاج لقوانين جديدة بل لإرادة سياسية، وكلماته تشير بوضوح إلى غياب الإرادة السياسية في محاربة الفساد، فلماذا تغيب الإرادة في موطن لا يتعلق بحياة المواطنين فحسب، بل بكيان الدولة ومستقبل البلاد. ويذهب المحلل السياسي ياسر محمد محمود إلى أن البرلمان مهما عمل لا يستطيع أن يقف على كل حجم الحقائق والوقائع المتعلقة بالفساد، رغم التقرير السنوي للمراجع العام، مشيراً إلى ما وصفه بسلحفائية التعامل في القضايا التي يعلنها المراجع العام، نظراً لأن القضايا تتطلب التحقيق والتقصي من المسؤولين المعنيين بها، ويضيف ياسر في حديثه ل «الإنتباهة» قائلاً إنه بانتهاء البرلمان من عمله فإنه يتجه لرفع تلك القضايا لوزارة العدل التي تتعامل معها بسياسة «البطن الغريقة والنفس الطويل» وفقاً له، وينتج عن ذلك بطء شديد في تناول تلك القضايا، الشيء الذي يمثل عامل إغراء للكثيرين لتمتد أيديهم للمال العام، وتأبى الدارهم إلا أن تطل بأعناقها. وتظل مظاهر الثراء الفاحش من لا شيء يذكر، تلفت أنظار الرأي العام، فلا يكف عن الحديث عن الفساد بموازاة أحاديث الحكومة المتكررة بأنه لا كبير على المحاسبة.