في هذا الزمن المتقدم من العمر نحمد الله حمداً كثيراً كرضاء نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته وعدد خلقه، فقد تواصلت نعمه علينا تترى، غير مقطوعة ولا ممنوعة.. لقد مررت بمشكلات صحية كثيرة منذ العام 1987 عندما عانيت من ورم حميد في الغدة النخامية تغلبت عليه بعافية من الله سبحانه وتعالى ببركة سورة يس وأقراص الدوستينكس وقبل شهرين أُجريت لي عملية القلب المفتوح وزُرعت لي ثلاثة شرايين فانساب الدم في القلب وخرجت «أحسن من الأول» وتماثلت للشفاء تماماً. وفي ذات الأسبوع الذي أكملت فيه الستة أسابيع التي قررها الأطباء ويبدو أن زوجتي الوفية قد أنهكها القلق والسهر فارتفع ضغط دمها ليدخلها في غيبوبة بعد أن أُصيبت بنزيف في الدماغ فحملناها إلى مستشفى فضيل حيث أُدخلت العناية المكثفة تحت رعاية الدكتور الاختصاصي عباس صديق والدكتور الاختصاصي كمال العمدة حيث وجدت العناية الكاملة وتخرج من تلك المحنة وهي تتماثل الآن للشفاء على يد الدكتور احمد دكتور العلاج الطبيعي وطاقم التمريض المؤهل فلله الحمد من قبل ومن بعد... كل ذلك تم هنا في السودان ولم يتم في الأردن أو بريطانيا أو ألمانيا. لقد من الله علينا بنعم الابتلاء ونعم الصبر على البلاء وتلك نعم لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم. ونحن الآن في مقام الحمد والشكر والرضا. تلك مقامات هي منة من الله يعطيها لمن شاء من عباده.. لا يسلبهم منها أحد مهما علا قدره. هذا على النطاق الشخصي أما على النطاق العام ففي القلب غصة وفي الصدر هم عظيم وأنا أرى بلدي وقد تآمر عليه المتآمرون وتكالب عليه المتكالبون كتكالب الأكلة إلى قصعتها .. وليس ذلك من قلة ولكنها كثرة قليلة الحيلة والتدبير وتفرقت بها السبل فلم تستبن الخيط الأبيض من الخيط الأسود في فجر اليقين الوطني. فأصبحت أردد مع شاعرنا المغفور له عبيد عبد الرحمن: آه من جور زماني وما بي من نوائب سهران ليلي طائل حارس بدري غائب أو مع شاعر النيل حافظ إبراهيم: أنا لولا أن لي من أمتي خاذلا ما بت أشكو النوّبا أمة قد فت في ساعدها بغضها الأهل وحب الغربا تعشق الألقاب في غير العلا وتفدي بالنفوس الرتبا الآن نرى بعيني الغفلة كيف استُبيحت أراضينا وأقوامنا في شمال كردفان قتلاً وتنكيلاً وإهانة.. لا لكي يحتلوا تلك الأماكن ويبقوا فيها وهم يعلمون أنهم لا يستطيعون ذلك ولكن لكي يسجلوا إهانة واضحة للوقار الوطني الذي ظللنا نتسربل به ويُظهروا ضعفنا وهواننا للأمم ولكل عين عالمية تشاهد الفضائيات وتقرأ الصحف. على أن ما أريد أن أبوح به هو أنه على قدر أهل العزم تأتي العزائم... ومن يهن يسهل الهوان عليه.. ودون تنميق للغة فقدت قدرتها التعبيرية أقول بحق إن ما حدث وما يحدث وما سيحدث هو تراكم لتراخ مهين بدأ من قبل أن يتمرد مالك عقار ويخرج من الولاية والياً ويعود متمرداً يقاتلنا في عقر دارنا .. وما قوتل قوم في عقر دارهم إلا ذلوا أو كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. في تقرير عن أحداث الدمازين ومن قبل أن يتمرد مالك عقار الذي كان والياً ويوقع «حاكم النيل الأزرق» بعد أن يشطب كلمة والي.. وفي ندوة عن الختان الفرعوني.. تكلم مالك عقار ولك أن تتخيل نوعية الحشد لتلك الندوة التي يتكلم فيها الوالي.. قال بملء فيه: - لو هناك شخص واحد كان يجب أن يحاكم فهو «محمد» لأنه اغتصب فتاة عمرها تسعة أعوام. لقد ثرنا وخرجنا في مظاهرات عندما أساء الدنماركيون للرسول صلى الله عليه وسلم وثرنا وخرجنا في مظاهرات عندما أساء الفرنسيون للرسول صلى الله عليه وسلم. وثرنا عندما أخرج ذلك الأمريكي فيلماً مسيئاً لرسولنا صلى الله عليه وسلم.. وها هو الرسول صلى الله عليه وسلم يُساء إليه في ديارنا ولم يحرِّك أحد شفتيه مندداً. لماذا؟ هل لأن مالك عقار في ذلك الوقت لم يتمرد بعد وكان من ضمن منظومة الولاة فغضضنا الطرف عن ترهاته وتفلتاته حتى ولو كانت مهينة لرسولنا الكريم؟ ألا تذكرون حادثة طالب معهد المعلمين شوقي عز الدين الذي تفوه بحديث مسيء للسيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وما تبع ذلك من إجراءات؟ التقرير قدمه أحد الذين ذهبوا لتقصي الحقائق في تمرد مالك عقار والإرهاصات التي كانت تشير إلى أنه سيتمرد. وفعلاً بعد تلك الندوة بشهر واحد تمرد مالك عقار وجاءنا غازياً راجماً مدمراً. وأنا لا يخالطني أدنى شك أن الله يعاقبنا بهؤلاء لأننا لم نفعل شيئاً ورسول الله صلى الله عليه وسلم يُساء إليه أمامنا أكتب هذا وأنا ليس لي في هذه الفانية بعد هذا العمر الذي لم يبق منه الكثير إلا كلمة حق أقولها حتى ولو على نفسي. وما يصيبنا ما كان ليخطئنا وما يخطئنا ما كان ليصيبنا. أكتب هذا وأختم بخبر سعد بن الربيع: «لما كان أحد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: «من يأتيني بخبر سعد بن الربيع؟» وكان خزرجياً من أغنى أغنياء المدينة، وهب كل ماله لنصرة الإسلام وخرج مقاتلاً يوم أحد فقال أبي بن كعب: أنا فذهب يطوف في القتلى، فقال له سعد: ما شأنك؟ قال: بعثني رسول الله لآتيه بخبرك، وأمرني أن أنظر، أفي الأحياء أنت أم في الأموات؟. قال فاذهب إليه فأقرئه مني السلام، وأخبره أني قد طُعنت اثنتي عشرة طعنة، وأني قد أنفذت مقاتلي، وقل لقومك يقول لكم سعد بن الربيع: الله .. الله.. وما عاهدتم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، فوالله مالكم عند الله عذر ولا خير فيكم إن خلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف. قال أبي بن كعب: فلم أبرح حتى مات، فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: «رحمه الله، نصح لله ولرسوله حيا وميتًا». تلك أمة قد خلت .. تركت مآثر يرويها التاريخ. «وأنتم واهمون إذا كنتم تتوقعون أن تصالح السكين الجرح». أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.