نحن أمة على كثرة تجاربها، وطولِ تاريخها إلا أنها لا تحاول أن تستفيد من تجاربها، وتاريخ رجالاتها.. أمة طريقها واضح بين لكنها، تخجل أن تسلكه.. سلكنا طريقاً آخر سلكته أمم من قبلنا فتاهت خطانا.. وصرنا آخر الركب!! «كعب بن الأشرف» أحد أشد اليهود حقداً على الإسلام والمسلمين، وكان من أشدهم إيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته.. لما بلغ المدينة خبر انتصار المسلمين، وقتل صناديد قريش في بدر قال: أحق هذا.. هؤلاء أشراف العرب، وملوك الناس، والله إن كان محمد أصاب هؤلاء القوم، لبطن الأرض خير من ظهرها. ثم قام يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين.. ثم ركب إلى قريش، وجعل ينشد الأشعار يبكي فيها على قتلى المشركين يوم «بدر»، يثير بذلك حفائظهم على النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعوهم إلى حربه.. وحين رجع كعب إلى المدينة أخذ يشبب في أشعاره بنساء الصحابة، ويؤذيهم بسلاطة لسانه. وحينئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لكعب بن الأشرف؟ فإنه آذى الله ورسوله» قام محمد بن مسلمة فقال: أنا يا رسول الله، أتحب أن أقتله؟ قال: «نعم».. فتشكلت مفرزة من بعض الصحابة.. وكان قائد هذه «الكتيبة الخاصة» محمد بن مسلمة. فذهب إلى «حصن كعب الأشرف» وقال له: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة.. وإنا قد اتبعناه، فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه؟ وقد أردنا أن تسلفنا وَسقا أو وسقين. قال كعب: نعم، أرهنوني. قال ابن مسلمة: أي شيء تريد؟ قال: أرهنوني نساءكم. قال: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟ قال: فترهنوني أبناءكم. قال: كيف نرهنك أبناءنا فيسب أحدهم فيقال: رُهن بوسق أو وسقين هذا عار علينا. ولكنا نرهنك السلاح. وصنع «أبو نائلة» مثل ما صنع محمد بن مسلمة، فقد جاء «كعباً» وقال له: ويحك يا ابن الأشرف، إني قد جئت لحاجة أريد ذكرها لك فاكتم عني. قال كعب: أفعل. قال أبو نائلة: كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء، عادتنا العرب، ورمتنا عن قوس واحدة.. ودار الحوار على نحو ما دار مع ابن مسلمة.. وقال أبو نائلة أثناء حديثه: إن معي أصحاباً لي على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم، فتبيعهم.. وقد نجح ابن مسلمة وأبو نائلة في هذا الحوار إلى ما قصداه، وهو أن كعباً لن ينكر معهما السلاح والأصحاب. وفي ليلة الرابع عشر من شهر ربيع الأول سنة 3 ه .. اجتمعت هذه المفرزة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشيعهم إلى «بقيع الغرقد».. ثم وجههم قائلاً: «انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم». وحين وصلو إلى حصن كعب بن الأشرف، ناداه أبو نائلة، فقام لينزل إليهم، فقالت له امرأته، وكانت عروساً.. أين تخرج هذه الساعة؟ أسمع «صوتاً كأنه يقطر منه الدم». قال كعب: إنما هو أخي محمد بن مسلمة، ورضيعي أبو نائلة.. وخرج إليهم وهو متطيب.. وكان أبو نائلة قال لأصحابه: إذا ما جاء فإني آخذ بشعره فأشمه، فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه، فلما نزل كعب إليهم تحدث معهم ساعة، ثم قال أبو نائلة: هل لك يا بن الاشرف أن نتماشى إلى شِعْب العجوز فنتحدث بقية ليلتنا؟ قال: إن شئتم، فخرجوا، فقال أبو نائلة وهو في الطريق: ما رأيت كالليلة طيباً أعطر من طيبك، وزهي كعب بما سمع، فقال: عندي أعطر نساء العرب، قال أبو نائلة: أتأذن لي أن أشم رأسك؟ قال: نعم، فأدخل يده في رأسه فشمه وأشم أصحابه.. ثم مشى ساعة ثم قال: أعود؟ قال كعب: نعم، فأدخل يده في رأسه، فلما استمكن منه قال: دونكم عدو الله، فاختلفت عليه أسيافهم، لكنها لم تفعل شيئاً، فأخذ محمد بن مسلمة مغولاً فوضعه في ثُنته، فقتله.. وقد صاح صيحة شديدة أفزعت من حوله، فلم يبق حصن إلا أوقدت عليه النيران. ورجعت المفرزة.. حتى إذا بلغوا بقيع الغرقد كبروا، وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرهم، فعرف أنهم قد قتلوه، فكبر، فلما انتهوا إليه قال: «أفلحت الوجوه»، قالوا: ووجهك يا رسول الله.. فحمد الله على قتله، وتفل على جرح الحارث فبرأ، ولم يؤذ بعده.. ولما علمت اليهود بمصرع طاغيتها كعب بن الأشرف دب الرعب في قلوبهم.. وعلموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لن يتوانى في استخدام القوة حين يرى أن النصح «والمفاوضات» لا تجدي نفعاً لمن يريد العبث بالأمن وإثارة الاضطرابات.. وأسرع المتمردون إلى جحورهم يختبئون فيها.. يتبع.